عندما يكون الَاضراب عن العمل الرعائي عراقياً



منال حميد غانم
2023 / 10 / 26

20/5 قُتلت نيرة أشرف المصرية بوضح النهار أمام مرأى ومسمع شهود عيان رجال ونساء , شِيبا وشباناً ولم يحرك احدهم ساكن , ثارت الحسابات النسوية والانسانية على " مواقع التواصل الاجتماعي " لتُخبر العالم بهذا الحدث المروع وارتفعت هاشتكات تطالب بالقصاص لنيرة , ولم تمر فترة طويلة حتى قُتلت طالبة جامعية اخرى لكن في الاردن , رفضت هي الاخرى الزواج من شخص ما فهددها بأن يجعلها نسخة نيرة اشرف الاردنية و كان له ما أراد .
وبعد اربع ايام تقريبا ظهرت الدعوات من ناشطات ومنظمات نسوية عربية تدعوا الى اضراب نسوي عابر للحدود تضامنا مع من قتلن بدافع جنساني وحددن موعده ب6/7/2022اي تم التحشيد له خلال شهر و12 يوم فقط , حاولت النسويات العراقيات المشاركة في هذا الحدث غير الواضح معالمه من جانبهن بشكل دقيق ليتمكنّ من أن يجاوبن على اسئلة القواعد من النساء من قبيل ( ما الاضراب النسوي؟ لماذا نقوم به ؟ كيف سنقوم به ؟ هل هذا واقعيا ؟ ) , لم ُتقدم اجوبة حينها على الاقل في العراق , لكن عندما حل يوم الاضراب تهافتت منشورات من رجال ساخرين من فكرة الاضراب فطرحوا رغباتنا فيه بشكل كوميدي ساخر اثار فينا الضحك نحن ايضا, لأنه لا يمثل سوى رد فعل لإغراق النسويات مواقع التواصل بمنشورات داعية لأضراب عام من المحيط الى الخليج ولم يكن هناك تجاوب من القواعد النسائية , وانتشرت منشورات موحدة تحمل عنوان الاضراب النسوي ومناقشات لإخراج تظاهرات وتعليقات من قبيل ما العمل الذي استطيع الاضراب عنه فيما اذا كان عمل أجور او عمل منزلي غير مأجور او استهلاك او ادوار متوقعة؟ , لكن كل ما تم تنفيذه باليوم المحدد كان لا يرقى الى مستوى مفهوم اضراب أممي , يصنف كمرحلة ما قبل الاخيرة من التصعيدات السياسية التي تسبق العصيان بأنواعه .
وبالملاحظة للتعليقات التي تظهر على المنشورات او مناقشات النسويات في دوائرهن الخاصة كان هناك اعتقاد مضمر بأن الامر لن ينجح , لكنهن رغبن بخوض التجربة بشكل اولي على امل ان يتم تطبيقه مستقبلا, اما القواعد او الجماهير من النساء كن يشعرن بان الامر مستحيلاً بل اقرب للخيال .
وفي محاضرة قدمتها احدى النسويات العربيات لطالبات المدرسة النسوية الرابعة التي ينظمها تحالف امان النسوي في العراق والتي تتمحور حول اساليب النضال النسوي , تُرك المجال لمخيلة الطالبات لتخيل يوم الأضراب عن العمل الرعائي من صباحه حتى مسائه فأنبثقت السرديات لليوم المتوقع بغاية الدموية والوحشية, احداهن قالت سنسمع عن نساء يتم ركلهن من البيوت الى الشوارع بملابس المنزل , سنشاهد العنف مبررا على اتم صورة لكل من يضرب زوجته ويخبر الناس بذلك على مواقع التواصل لأنها رفضت الواجبات المنزلية , سنشاهد كبار سن يفضل ابنائهم ان يغوصوا في عجزهم على ان يقدموا العناية لهم بدلاً عن النساء التي اضربت , سنشاهد الاطفال في الشوارع ومبررات الطلاق تبلغ اوجها , ستغص المحاكم في اليوم التالي ومكاتب رجال الدين بالراغبين بطلاق زوجاتهم , ستصبح الكثير من المدارس والجامعات بلا كم من الطالبات لا يستهان به , كعقاب لهن على رفضهن القيام بأعمالهن المنزلية , وهناك طفلات تصل اعمارهن ل8 و 9 سنوات سيُعنَفن بشكل مضاعف مرة لأنهن طفلات يتم صب الغضب الساخن عليهن كرد فعل لما قامت به نساء العائلة من رفض للعمل المنزلي , ومرة لأنهن سيتحملن الجهد المنزلي بشكل مضاعف ويتم الاعتماد عليهن في هذا اليوم للقيام بتلبية احتياجات الرجال قسريا , وبعيدا عن الاضراب فهذا التصوير مألوف قد خبرته غالبية الطفلات عندما تغضب امهاتهن في بيت والدها وتتركهن مع رجال العائلة من أب واخوة .

اكتملت الصورة المتخيلة بشكل اوضح نوعا ما عندما تم مناقشة هذا الاسلوب الاحتجاجي في احد دوائر التعريف بالعمل الرعائي وتثمينه التي قدمتها في الفرات الاوسط حيث تتابعت سرديات التوحش المتخيل الذي سيلاقينه بالتأكيد نتيجة قيامهن بالأضراب كتتمة للصورة الأولى لكنهن فكرن بحلول ايضا : فقالت احدى الامهات وهي تتخيل يوم الاضراب بأنها ستنجز كل ما عليها من عمل منزلي في اليوم السابق له واخرى قالت سأسافر الى مدينة اخرى وبحجة السفر لن انجز العمل المنزلي واخرى قالت من الممكن ان اقنع زوجي بأهمية الاضراب , وواصلن حتى تحدثت اخرى كانت مندمجة مع الفكرة المتخيلة وكأننا سننفذها غدا مع طلوع الفجر فقالت وكيف سيعلم المجتمع والدولة أننا اضربنا عن العمل المنزلي ؟ وهل هناك نساء قمن بها قبلنا ونجين ؟
هي من نقلت الحديث بسؤالها من المخيلة الى الواقع , الى الأمل , للنقاش ولو بشيء من الاقتضاب حول امكانياتنا المحدودة في العمل السياسي النسوي .
فمع ان الاضراب النسوي من الممكن ان يقع من خلال التوقف عن الاستهلاك لمدة معينة او التوقف عن العمل المأجور في الوظائف العامة او القطاع الخاص او التوقف عن تأدية اي من الادوار النمطية المتوقع من النساء تقديمها الا ان الاضراب عن العمل الرعائي او المنزلي هو الاجدى مرة من ناحية أن اعادة الانتاج الاجتماعي على النساء بات صعبا في العراق بسبب صعوبات الحياة بشكل عام وبسبب الدور الاجتماعي المحدد الموكل أليهن ومرة لأن النساء اللواتي يعملن في العراق كعاملات في اعمال ذات أجر قلة حيث يشكلن 9% فقط , اي ان اضرابهن عن العمل لن يشكل فارقا , بمعنى ان هناك 91% من النساء العراقيات يقدمن العمل الرعائي والمنزلي غير المأجور واخريات يقدمنه بسخاء الى جانب اشتغالهن بأعمال اخرى لكنها على مستوى من الهشاشة وانعدام الضمانات .
وعندما نقول نساء تقدم العمل المنزلي فنحن لا نتجاهل اليافعات والطفلات اللواتي يقدمنه بشكل قسري ومن عمر ثمان سنوات في المدن والى اقل من ثمانية في الارياف .
فأنصباب الاضراب على هذا النوع من الاعمال يكون منتج اكثر من غيره وقد خبرته نساء اخريات في هذا العالم فقد سبقتنا اليه النسويات في هايتي وتشيلي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والهند واسبانيا وكان اخرها منظم من قبل شبكة الاضراب العالمي عام 2020 , ومنذ اعتباره اسلوب احتجاج نسوي عام 1972 كان منصب على التوقف عن القيام بالأعمال المنزلية والخروج الى الشوارع بتظاهرات حاشدة .
ماذا تعلمنا :
أن تطوير ممارساتنا النسوية الاحتجاجية لا يتم الا من خلال اعادة التقييم والنقد الذاتي , فمع ان الضعف التنظيمي بين صفوفنا يحاول جاهدا في كل مرة أن يلوح بيده من بين الركام ليخبرنا انه موجود لكن لا يتم الانصات أليه, فاتخاذ قرار " اضراب " يتطلب وجود كم هائل من ربات البيوت لينفذنه , لكن بواقع الحال لم يتم تنظيمهن بشبكات ولم يتم اعلامهن بأتخاذ قرار الاضراب الا قبل مدة تعد هي الاقصر للتحشيد " 42 يوم" فقط , و لأبسط فعل احتجاجي وليس الى مستوى متقدم مثل الاضراب .
التنظيم وبأي شكل كان تقليديا او مبتكرا , لو كان موجودا لأستطاع الأجابة على اسئلة من قبيل هل الاضراب سيكون استحواذيا على الحيز العام " في الساحات" ام كلاً من موقعها , ليستشعره الجميع فيما بعد وهم من يخبرون السلطة والمجتمع بوجوده ؟ كيف سنوقف كل شيء ؟ كيف سنمتلك الحيز العام لنتعرف على بعضنا البعض؟ وهل سبق ان ناقشنا همومنا سوية من قبيل عدم توفر فرص عمل ووقوع عبئ التعليم الحكومي المتردي على الامهات وغياب الحقوق الجنسية وضعف توفر الحقوق الانجابية وموقعنا من الاحداث السياسية الحالية وكيفية مشاركتنا في السياسة العامة واصلاحات القوانين والاجهاض والعنف وتملك الاراضي والتقاعد وغيرها الكثير الكثير .
مثلا في تشيلي عندما تم التنظيم لأضرابهن النسوي عام2019 حددن 100 طريقة للأضراب وهن يصغن برنامجهن في اجتماع جامع لكل القوميات , وحددن فيها طرق التحشيد والدعاية عبر الفن وعلى الارض لا على مواقع التواصل فقط .
ان التأكيد وبواسطة التنظيم على غائية الاضراب سيُفهِم النساء بأن لا السفر ولا الاجازة ولا القيام بالأعمال المنزلية بيوم سابق من الممكن ان تجعل الاضراب منتجا , فالغاية هو ايقاف عجلة الحياة اليومية لا توفير ضمان استمراريتها من اجل التأثير على الراي العام والسلطة للأنتباه الى المطالب النسوية التي قد تنصب على ايقاف جرائم القتل بدافع جنساني او جرائم التعنيف بسبب النوع او تثمين العمل المنزلي او المطالبة بعمل بدون قيد او شرط او تغيير مجرى الحياة السياسية في البلاد .
يبدو ان اموالنا في مكان اخر :
احدى الزميلات تقول أنها غير مهتمة بتثمين العمل المنزلي من قبل الدولة فهذا الفعل تكريس للدور النمطي الموكل للنساء وهو القيام بالأعمال المنزلية وأنها تكتفي بتشارك الاعباء المنزلية بينها وبين زوجها لكن الحقيقة اعقد من ذلك , حيث تقدر اوكسفام بأن قيمة الاعمال غير مدفوعة الاجر حول العالم تصل الى 11 تريليون دولار , وفي العراق لا نعرف قيمة العمل المنزلي مقدراً بالمال فلم تظهر دراسة لأحتسابه لحد الان وفي كل الاحوال فأن هناك اموال قد نرى ارجاعها الينا بالوقت الحالي "مخيفا او خياليا" وقد تُهدر دماء نساء وتترك عاهات في اجساد اخريات اذا طالبن بها لكنها مازالت تتحرك لتتحول الى دولارات تصدر الى دول اخرى او تذهب من اجل التسلح العسكري او تذهب لقمة سائغة الى جيوب الميليشيات او استثمارات القادة في دول العالم .
ان ضرورة احتساب قيمة اعمالنا المهدورة هو نقطة البدء التي تفهمنا من اين ننطلق عندما نصوغ مطالبنا وتفهمنا بأنه فائض لم نأخذه فتم هدره في العسكرة وفي ايذاء الطبيعة وفي صناعة دولة اللادولة عندما تتعبئ بها جيوب المليشيات والجماعات المسلحة الاخرى التي تقف خارج اطار الدولة وتتخذ لنفسها تسميات عدة لتدمي اخرين واخريات وتبني دولة الغاب اكثر فأكثر .
المطالبة بتثمين العمل المنزلي ضرورة و ليس رفاهية تضمن بقاء ونماء الاجيال القادمة بسلام وبعيدا عن الصراعات. قد يبدو فعل الاضراب كفعل احتجاجي شيء اسطوري في الوقت الحالي في مخيلة النساء من القواعد وحتى النسويات لكن له ما يبرره فهن لم يخبرن الأحتجاجات السياسية النسوية من قبل ولم يتعد ما قمن به سوى تظاهرات او وقفات ومازلن يدربن انفسهن على الاحتجاج الناعم داخل منازلهن, لكن لا ضير ببعض الخيال الذي يرفع سقف الطموحات ويوقفنا امام تساؤلات عدة وتحديات للإجابة عليها .