التضامن ام شجرة الذنب, حول الأمومة في الحروب



منال حميد غانم
2023 / 11 / 3

كبُرت شجرة الذنب .
"في نهاية الامر , مهمة الأم , المهمة الفريدة والاساسية لكل أم, هي الحفاظ على اولادها احياء" هكذا نقلت لنا ايمان مرسال في كتابها ( كيف تلتئم: عن الامومة واشباحها )وعرفتنا على نوع اخر من الامهات في الصور وهي " الام الأداة " تلك الام التي تنقل امومتها عبر الكاميرات لكن لتصبح ذريعة لألقاء نظرة اخرى على صراع اجتماعي ما او كارثة تمس الامة كلها , او لتطويع امومتها لتتحول الى رمز للحظة تاريخية معينة.
بطريقة تجعلنا نعيد التفكير والسؤال حول امومتنا وما الطريقة التي نريدها ان تكون عليها و هل لتخدم النظام الابوي وعسكرته ورغبته بالتفوق والسيطرة وما صغارنا سوى قرابين له؟ ام ان صغارنا وقدرتنا على ابقائهم احياء ولأطول فترة ممكنة مُنتهِجات كل السبل التي تمكننا من ذلك هي قضيتنا المركزية الاولى كأمهات وتلك النقطة هي العامل المشترك الذي يجب ان نتفق عليه بيننا جميعا ونضغط وبشكل سياسي على حكوماتنا لتساعدنا في تقديم التضامن العملي لا العاطفي وحسب .
قدر الامهات الفلسطينيات ان يتواجدن في بقعة تحمل ثقافة شعبية ترى ان شكل النضال الموكل للنساء القيام به هو الانجاب والتربية ثم انتظار خبر الشهادة او التأسير و منذ السابع من اكتوبر وصور الأمهات الفلسطينيات تنبثق امام انظارنا بشكلها المدمى والمؤلم والمأساوي بطريقة لم نشهدها مسبقا بأي من انتفاضات القطاع وربما السبب كان بسبب أزدهار تقنيات التصوير ومعالجاته وتقدم مهارات من يقومون به وتعدد ونمو وتنوع منصات التواصل الاجتماعي التي مكنتنا من سماع كلماتهن اول بأول ونشاهد صورهن وكأننا نعيش بينهن لا يفصلنا عنهن كأمهات سوى حاجز شفاف شديد الصلابة , مؤذي بمستوى ان تكون بلا اطراف او لسان في غرفة تلتهمها النيران. هكذا كانت مشاعرنا التي ساهمت مواقع التواصل بتكوينها بما رفدت ارواحنا من صور وفيديوهات مرعبة طوال الوقت ما دام الهاتف على راحة الكف . فما بعد جائحة كورونا تحول الناس بسبب الحجر الى كتل دهون لا يتحرك منها سوى الابهام ليقلب وجهات النظر المتباعدة والمختلفة , والمتطرفة , والمحايدة, والعدائية والحميمية ويحولها الى وجبة يلتهموها من كل جوانبها ليشبعوا جوع المنصات الربحية بالتفاعل وضغط اللايك .
في انتفاضات الفلسطينيين السابقة كنا نشاهد مقطعين او ثلاث يتم تداولهن من قنوات تلفزيونية محددة وذات روئ سياسية واضحة للمتلقي, وبعض مناظر الدمار او العنف نشاهدها من خلف المراسل الحربي ليصف لنا ما يحدث معهن/م . لكن اليوم تحولت مهنة الصحافة والنقل الحربي مهنة غالبية الناجين يجيدونها ليمرروها الى اخرين في اماكن سلم فيتم معالجتها لتحفر الحزن وتنقشه بكل قلب بحيث تجعل الكل في حالة غضب وعجز واحباط دائمة .
نشاهد اطفال لا يكتفون بكل طواقم المسعفين او من يعرفونهم ومن لا يعرفونهم من المنقذين وينادون على امهاتهم من تحت الانقاض , ترجمت الامهات تلك المناداة في اماكن السلم كما لو انها مناداة اطفالهن لهن معروضة امام ناظرهن, دفعت بكل واحدة ان تروي شجرة الذنب خاصتها كلا بطريقتها فشجرة الذنب هي الملك المشترك بين كل الامهات تولد مع ولادة الطفل وتتغذى على سؤال : هل أنا ام جيدة ؟ وتطرح ثمارا مرة مذاقها لوم الذات على كل سوء يصيب صغارها حتى لو لم تكن لديها يد فيه فهي تعتقد بوجود امكانيات لصده ولم تجربها .
شجرة الذنب ذات الجذور الواحدة المترابطة من اسفل بين كل امهات بني البشر جعلت الامهات " يمتنن" على تنفس اطفالهن وبالقرب منهن دون الخوض بالتفكير الزائد فهمومهن قبل السابع من اكتوبر مثل تحسين التعليم المجاني والتخلص من التعليم الاهلي وارتفاع اسعار ملابس الاطفال الشتائية او سن قانون يجرم المتحرشين بالأطفال او معاقبة معنفيهم وغيرها بل اكتفين بأنهم أحياء فقط .
تخبرني صديقتي عند مشاهدتها لخبر مؤتمر الأطفال الموتى بعد قصف المستشفى المعمداني بأنها نامت وحمدت الله ان لها ولأطفالها سقفا يحميها ولا يوجد محتل في الخارج هددها ان تترك منزلها ليسويه في الارض .
سقف طموحاتنا بدء ينخفض يوما بعد يوم بمجرد تمرير الريلز ومشاهدة الحياة التي تقاسيها الأمهات الناجيات وهن يبذلن جهودا جبارة لتوفير الاغطية وبدائل حفاظات الاطفال والحفاظات النسائية ويطوعن اماكن الدراسة والشوارع لتتحول الى مهاجع ومطابخ وغيرها من مهام أدامة حياة ما تبقى ممن تهتم بهم وهي تحمل جرح من فقدتهم بصدرها .
شجرة الذنب مدت افرعها اكثر فأكثر وتشعبت فصارت الامهات في اماكن السلم اللواتي يسمعن جمل من قبيل ( ماتوا قبل ما ياكلوا ) تزيد من تشويكها بأجسادهن فطفلي طلب مني اصابع بطاطا كتسلية وذهبت للمطبخ لتحضيرها وفور انتهائي ناديته فوجدته قد نام و شعرت بذنب رهيب فقط لأنني لم اطعمه ما رغب به على الرغم من انها وجبة تسلية وأنه دخل لينام ولم ...
لا نستطيع لفظ اي من مفردات كلمة "موت" , وعادة ما نسبقها بأدعية من قبيل ( أسمله عليه او اسملة على قلبه او اسملة وياسين او اسملة مرفوعة للأس 5 ) ولا نستخدم بعدها ايضا كلمات الموت بل نستعيضها ببدائل اقل ألما من قبيل ( راح , صارله قدر , صارله مكروه , الله راده , طير جنة ) , الامهات ينجبن الأطفال ليبقون لا ليتحولوا الى بيادق .
الحرب خيار ذكوري صرف ومواجهة الاحتلال قضية نسوية بلا شك , فالأكثر ضررا من الحرب هن النساء واكثرهن ضررا هي فئة الأمهات اللواتي ينجين بدون أطفالهن , نشاهد فيديوهات الامهات الفلسطينيات وهن يعدن اطفالهن بعد كل قصف ليتأكدن بان الكل نجا وهن يرتجفن ويرتعدن خوفا من الفقد ومرارته بينما يساهم الرجال في مشاركة فيديوهات رجال يعتبرون اولئك الاطفال مجرد ( مشاريع شُهدا ) ليشيدوا بالأسرة الفلسطينية الايقونية التي تربي اطفالها بهذا المدى من التضحية.
وعلى الرغم من ادراك الجميع حقيقة أننا غير قادرات عن عزل انفسنا ورغبتنا بالتضامن عن الانظمة القمعية التي نعيش تحت وطأتها وبالتالي "قدرتنا" لنساعد امهات اخريات محدودة لكن مع ذلك جوبهت تلك الرغبات التي قد تبدو حالمة بالكثير من التنمر والرفض ممن يتحدثون نيابة عن الامهات الفلسطينيات , حيث ظهرت احدى الامهات لتطالب بفتح المعابر لتسليم الاطفال من اجل حمايتهم لحين انتهاء الحرب, فتحول طلبها الى ساحة مزايدات بين الامهات العربيات في كفة والامهات الفلسطينيات في كفة اخرى كونهن ووفق زعمهم انجبن المقاومين ورافضين الذل كبقية العرب . او فيديوهات من امهات يقفن في تظاهرات امام مباني السفارات الاسرائيلية حول العالم يظهرن للآخرين بشاعة ما تتعرض له الامهات والاطفال فلم يجدوا هذا العمل كافيا , ومقاطع فيديو اخرى لنساء بسيطات يرغبن بفتح المعابر فقط لإنقاذ اخواتهن ومساعدة الاطفال فتحولت مطالبهن الى ضحك بين المعلقين مع انهم يعيشون تحت ظل نظام قمعي واحد.
ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومنذ بدايته يأثر على الوضع السياسي في اي بلد عربي اخر وبمجرد مرور اربع ايام على الحرب وضعت الامهات اياديهن على قلوبهن وعصرنها خوفا من حدوث حرب او عقوبات اقتصادية او تضرر طرق التجارة وبالتالي ارتفاع الاسعار وغيرها الكثير من السيناريوهات الواقعية وغير الواقعية التي نسجنها خوفا من ان يتحول اطفالهن الى جوعى أو موتى ... وبذلك انتقلن في مواقعهن من التضامن الى المشاركة في مصير قد يبدو مشترك .
يعتبر التضامن أداة من ادوات تقوية المقاومة لكن اشكاله هي التي تختلف ولا يوجد شكل نموذجي للتضامن وانما موقعية الاشخاص هي من تظهر نوع التضامن وصدقه ومدى تأثيره , وموقع الامهات يستطيع ان يخبرهن بمدى اهمية الوصول الى حل مستعجل قبل ان يفقدن اخواتهن المزيد من الابناء و موقعهن يستطيع ان يخبرهن حجم الوجع لدى الامهات الفلسطينيات دون ان يعشن التجربة ذاتها بشكل لحظي ولو ان العراقيات اصبحن ذوات خبرة عملية بالتعامل مع الحروب وفوضويتها .
ربما طريقتهن في التضامن تستطيع اخبارنا عن شكل المقاومة المحلية التي ينتهجنها في قضاياهن فالمعروف ان الدعاء والبكاء هو ثيمة تميز الامهات العربيات وهذا ما قدمته الغالبية منهن للفلسطينيات بينما راحت اخريات ابعد من ذلك عبر المقاطعة الاقتصادية او تكرار النشر على مواقع التواصل او التبرع للهلال الاحمر, و بعضهن عبرن عن تضامنهن من خلال "المقاومة الامومية" من خلال تثقيف الجيل الناشئ المرتبط بأجهزته الذكية طوال الوقت بما معنى قضية فلسطينية فأنقلب محتوى حسابات التربية ليشرح معناها وتبسيطه للطفل .
الحرب تلك لم تختارها الامهات الفلسطينيات ولم يُطلب رأيهن في نشوبها ولا حتى تحذيرهن لأخذ حيطتهن وحماية اطفالهن , هن مجبورات جبرا ابويا سلطويا للمشاركة في تلك المقاومة لا مخيرات , احدى تلك الامهات قالت: " قصفونا ونحنا مدنين ما بينا عنصر مقاومة ولا يعيشون بالقرب منا ", هي لم تصنف نفسها كمقاوِمة ومستغربةً اعتبارها كذلك ولكن الضغط الجمعي العام عمل على اخراس الكثيرات مثلها ممن لا يتناسبن مع صورة الأم الاداة كما اخرس اخريات مثلهن تماما في العراق , يفهمن بعضهن تماما ولا يقدمن سوى اللوعة اليومية المتواصلة على اخواتهن .
شجرة الذنب مازالت تمتد لتصل الى لوم بعضنا البعض كأمهات عما يحصل للأمهات والأطفال في قطاع غزة , فالأمهات وعبر مواقع التواصل والمهتمات بالتربية الحديثة تحولن الى أداة لرجم بعضهن البعض ولرجم صاحبات المحتوى على من هي القضية الاحق بالعناية الاطفال ام القضية ككل ولم يرحمن اي صاحب/ة محتوى لم تقم هي الاخرى بتقديم قرابين التضامن لمتابعيها كي لا تفقدهم وكأن كل مواقفنا نوثقها على مواقع التواصل .
قدرتنا على انشاء تكتلات نوعية من فئة الامهات تقف على مقربة من كل الامهات الاخريات عند الأزمات هي بداية تنظيم امكاناتنا المشتركة نحو التضامن, لنتحول الى قوة سياسية قادرة على الضغط بما يسهم في ايقاف الحرب او التخفيف من عواقبها على الامهات , لنتمكن وبشكل جدي من حلق اشجار الذنب من عالمنا فلا يوجد اكثر من الامهات من يعرفن مرارة ثمراتها ومع ذلك يتجرعنها كل يوم .