الختان والعباءة ولعنة تكرار البدايات



رجاء بن سلامة
2006 / 11 / 21

قد يتساءل القارئ عن الرّابط بين ختان البنات والعباءة السّوداء التي تجرّها الكثير من النّساء المسلمات على الأرض، لاسيّما أنّ المناطق التي تلزم فيها المرأة بلبس العباءة غير متطابقة في الغالب مع المناطق التي يُعمد فيها إلى قطع بظر المرأة وتشويه أعضائها الجنسيّة، وإن كانت العباءة السّوداء تكتسح اليوم مع النّقاب كلّ مناطق العالم، وتلبّس جغرافيا العبوديّة المفروضة أو المختارة الخاصّة بالمرأة، وبالجسد الأنثويّ.
لن أخوض في حلال ولا في حرام، ولا في تحاليل اجتماعيّة-سياسيّة، بل سأذكّر بقصّة منسيّة ولكنّها متكرّرة، وأعتقد أنّها ستظلّ فاعلة في الثّقافة التي ورثناها دون أن نرثها حقّا. لأنّ شرط الإرث أن يكون الوارث حيّا، وأن يكون الموروث ميّتا أو في حكم الموتى، وما دام الموروث حيّا بداخلنا لم ندفنه لنترحّم عليه ونحوّله إلى رمز وذكرى، فإنّنا نتلبّس به ونأخذ بتلابيبه ويأخذ برقابنا.
القصّة من نوع الأساطير التي تفسّر ظهور البدايات، وهي تفسّر ظهور ختان النّساء والذّيول التي تجرّها المرأة خلفها، كما تجرّ الكثير من المسلمات اليوم عباءاتهنّ. إنّها قصّة هاجر، جدّة العرب المنسيّة، أمّ إسماعيل، وقد كانت جارية لسارّة زوجة إبراهيم، وأنجبت لإبراهيم إسماعيل، قبل أن تنجب له سارّة إسحاق، فغارت منها سارّة وتسبّبت في تطليقها وطردها في الصّحراء صحبة طفلها، والقصّة بعد ذلك معروفة وتذكّر بها إلى حدّ ما شعائر الحجّ والطّواف في مكّة. يقول الطّبريّ في تاريخه : "فغضبت سارة على أم إسماعيل، وغارت عليها، فأخرجتها، ثم إنها دعتها فأدخلتها. ثم غضبت أيضاً فأخرجتها ثم أدخلتها، وحلفت لتقطعن منها بُضعة، فقالت أقطع أنفها، أقطع أذنها فيشينها ذلك، ثم قالت: لا بل أخفضها، فقطعت ذلك منها، فاتخذت هاجر عند ذلك ذيلا تعفى به عن الدم، فلذلك خفضت النساء، واتخذت ذيولاً ثم قالت: لا تساكني في بلد."
عبارة "فلذلك خفضت النّساء واتّخذت ذيولا" هي التي تسجّل لحظة البدء، ولحظة اللّعنة المتكرّرة، ولا يهمّ أن يكون الواقع التّاريخيّ يشهد بظهور "الذّيول" وختان النّساء قبل هذه القصّة أو بعدها، لأنّ الأسطورة تقول الحقيقة على نحو مغاير للتّاريخ، فهي تعطي مدلولا رمزيّا للمؤسّسات، وهي أقرب إلى منطق اللاّوعي وإلى الحكمة الوحشيّة الغابرة. المدلول الرّمزيّ هو أوّلا مدلول الضّريبة التي دفعتها هاجر من أجل أن تكون أمّا لنبيّ وجدّة لأمّة، وإن كانت جدّة منسيّة منبوذة، لأنّها لم تكن سيّدة شريفة كسارّة جدّة اليهود، بل كانت خادمة طريدة مهجّرة، ولكنّ المدلول الثّاني هو اللّعنة المؤدّية كما في الكثير من الأساطير العالميّة إلى تكرار الشّبيه والعودة على بدء : كلّ النّساء سيلقين نفس المصير : الختان وإسبال الذّيول. هل هو عقاب اعتباطيّ أو عادل إلى حدّ ما للنّساء المتصارعات على شيء من الحظوة والسّلطة؟ هل هو قدر محتوم؟ هل هو المزيد من إخصاء الكائن المخصيّ خلقة والباعث لذلك على القلق؟
هاجر جدّة العرب الأسطوريّة حكم عليها بأن تُخفض وأن تجرّر ذيولها، مخفية دماء ختانها النّازفة. العباءة المسبلة قبل أن تخفي أشكال الجسد الأنثويّ، تخفي إذن الدّماء، دماء الإخصاء الواقعيّ. وتتكرّر القصّة، قصّة الدّماء النّجسة وجرّ الذّيول، والطّرد، والتّطليق وإنتاج الشّبيه. هذا هو المدلول الأساسيّ للحجاب وللختان : إنّهما ليسا مكرمة، وليسا صيانة للنّساء العفيفات، بل هما ضريبة ولعنة لحقت الجدّة الأولى، لتتكرّر اللّعنة في ما بعد. ما يقولونه اليوم عن الوظيفة الأخلاقيّة للحجاب، وعن كونه يخدم قيم الحشمة وعدم التّبرّج حكمة مشبوهة، مطمئنة ومنافقة تفضحها هذه الأسطورة القابعة في أرشيف النّصوص المغبرّة. وما لا يقولونه عن الختان ويلفّونه بالصّمت، كما تُلفّ الجريمة التي يتعدّد مقترفوها تقوله أسطورة جدّتنا هاجر أيضا.
أساطير الأصل مليئة في كلّ الثّقافات بألوان العنف والصّراع والغيرة والدّماء النّازفة. سارّة طرف فاعل ومفعول به في لعبة أبويّة أساسها الغيرة بين نساء الباطريارك الواحد والبحث عن إنجاب الولد، ووجود أسياد ومسترقّين، وإمكانيّة طرد الرّجل المرأة وتطليقها. وهذه الأساطير لعبت دورها في بناء ديانات التّوحيد وفي خلق الحياة الرّوحانيّة، وفي خلق عبادة للأب الرّمزيّ، ومن السّخف أن نحاسب رموز الماضي بمنطق عصرنا الحديث. ولكنّ المشكل يكمن أوّلا في أنّنا نسينا هاجر والإخصاء الذي لحق بها، ويكمن ثانيا في أنّ هذا الماضي السّحيق لم يمض لأنّنا لم ننتج ثقافة التّأويل المسؤول التي تجعلنا نتذكّر الأساطير بدل أن نكرّرها ونتماهى مع أطرافها على نحو لاواع.
وما دمنا لا نقبل بموت ما نرث ومن نرث، ولا نقبل ببقائه من حيث هو رمز وذكرى، فإنّنا لسنا ورثة، بل ضحايا لأشباح من الماضي، ومكرّرون لكلّ أساطير اللّعنة. إنّنا لا نقدر على دفن الموتى لتحويلهم إلى رموز، ولا نقدر تبعا لذلك على قبول الحياة السّويّة والتّسليم بالموت المحتوم الآتي على مهل. الأشباح التي لم تدفن هي التي تجعل الذّات الحيّة لا تقبل الحياة ولا الموت، وتدور بلا هوادة حول بؤرة الأصل التي تنبعث منها صور الأشباح، لكي تقدّم إليها القرابين علّها تكفي شرّها. ولكنّ الأشباح كمصّاصي الدّماء لا تقبل باليسير، بل تقتات من نسغ الجسد الحيّ، وأرى من حولي أحياء تفرغهم أشباح الماضي من الحياة وتبعد بينهم وبين أنفسهم فتجعلهم مغتربين يلجّون في البكاء على كلّ شيء، لأنّهم ممزّقون بين ما يشدّهم إلى بهجة الحياة وما يجعلهم يفوّتونها نزولا عند رغبة الأشباح، وما يمثّل الأشباح من سلطة داخل الذّات نفسها، أي سلطة الشّعور بالإثم. إنّهم يستبدلون المتعة بالحياة بالمتعة بإرضاء الأشباح، ومن هنا الإصرار على المازوشيّة الدّينيّة والأخلاقيّة، لدى من يتّخذون حصار الأجساد ولفّها بالأكفان فلسفة ومشروعا مجتمعيّا، بل وبرامج انتخابيّة.
قصّة هاجر متواصلة في أنظمة تبيح تعدّد الزّوجات والتّطليق والعبوديّة، ولعنة النّساء متكرّرة في الختان والجلباب والنّقاب والخمار وكلّ ما يخفي الشّعر ليخفي الدّماء الأولى، وهي متكرّرة لدى كلّ من يفضّلون الغرق في دوّامة إنتاج الشّبيه والتّكرار الأبديّ.
جرّ الذّيول له معنى وله طعم جرّ السّجين لقيوده، وليس من معنى آخر للحجاب سوى جرّ القيود، فهو مذلّة النّساء المتكرّرة. المرأة التي تضيع جسدها في أذيال جلبابها وأحجبتها تتحوّل إلى شبح هلاميّ لا وجه له ولا فرادة، وتخضع إلى منطق إنتاج الشّبيه، فهي تتماهى مع هاجر لتشبه كلّ النّساء، وهي إلى ذلك وعلى نحو لا أستطيع فهمه تتشبّه بأشباح الماضي الملاحقة للأحياء.
هكذا أرى معنى حجاب النّساء وخصاءهنّ على ضوء أسطورة هاجر التي لا أنكر أنّها جدّتي، أو إحدى جدّاتي، ولن أنساها كما نسيها الآخرون، ولكنّني لا أتذكّرها إلاّ لكي أجتهد في جعل حياتي نسخة غير مطابقة لحياتها وبمنأى عن لعنتها.