نساء مصر، و-كامب- الشيخ محمد بن عبد الوهاب!!!



نضال نعيسة
2006 / 11 / 21

"ما هذه مصر فإنّ سماءَها صَفـَرَت وإنّ نساءَها أسلابُ."
لقد أراد شاعرنا الفذ هذه الكلمات شرحاً لتفريعات، يعتبرها البعض شذوذاً سياسياً ساد في مصر "الساداتية" بعد توقيع اتفاقيات "كامب ديفيد"، في قصيدته الأشهر التي يستطلعها بالقول: "يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً وعلى جبيني وردة وكتاب". إلا أن هذه الدرر الشعرية الشامية تجلت، وعن غير قصد، لاحقاً، كنبوءة اجتماعية من الطراز الأول، لرجل اقترن اسمه بالخروج عن كل ما يتعلق بالنبوءات الغيبية، وعن كل ما هو مألوف وتقليدي في عالم التفكير النمطي العام. كلمات رائعة، تحمل الكثير من المضامين التأملية الواسعة، قالها شاعرنا الكبير نزار قباني، وهو "يفصفص" حال مصر كامب ديفيد في تلك الأيام. إلا أنه، لم يكن يدر بخلده أن مصر ذاتها، التي سرقها اليهودي هنري كيسنجر من محيطها السياسي ليودعها في كامب ديفيد الأمريكي، ستقع يوماً ما فريسة، وتحت براثن، وتأثير "كامب" الشيخ الحنبلي محمد بن عبد الوهاب، القادم هذه المرة من صحراء الربع الخالي الجدباء حيث القحط، والتصحر، والتجمد، واليباس. وإن كان "الهاجس النسوي" الغزلي الجمالي، وراء بعض مما يقوله الشاعر العظيم، فإنه ولا شك كان يحمل بعضاً، أو شيئاً مما آل إليه حال شعب مصر، راهناً، على الصعيد الاجتماعي، والسياسي العام.

نعم إن نساء هذه الأصقاع، هنّ، وبشكل عام، أسلاب، وسجينات، وأسيرات سبايا لأنماط تفكير ذكوري، بدوي، قبلي، بدائي استرقاقي، وليس فقط نساء مصر، في زمن مد "كامب" الوهابية الطالبانية المظلم، وهن يتعرضن لهذا الكم الهائل من الضغط، والتخويف، والتسطيح، والحشو الفكري الأحادي السلفي، وهن واقعات تحت تأثير عمليات "التطبيع الوهابي" هذه المرة وليس السياسي. وكل ذلك تحت سمع وبصر الحكومات الطالبانية، التي من المفترض أنها مؤتمنة على مصير الناس ومستقبلهم. لقد تحولت الأوطان الرومانسية الجميلة إلى ولايات طالبانية خالصة تبنت الخيارات الماضوية المتخلفة الموغلة في توحشها وهمجيتها، وطلقت الحضارة، بما فيها، وتنكرت للمنطق، ونامت في عسل الغيب والخرافات، ووجدت بالمرأة، كمظهر اجتماعي هام يعكس ثقافة وواقع أي مجتمع، سلعة دسمة للاتجار بها وتفرض الجماعات الدينية، ومن خلالها، وجودها السياسي تمهيداً للإطباق الكلي على المجتمع بقضه وقضيضه، وسط تغييب متعمد لأي نوع من الفكر العلماني التنويري الذي صار يعني في العرف العام، والإعلام السلطوي، والثقافة السائدة الكفر والإلحاد والمروق من الدين. ومن يقوم بجولة في وسائل الإعلام، والتلفزيون يدرك تماماً أن ما يحدث في الشارع، وواقع الحال، هو أقل بكثير مما يجب أن يحصل نتيجة لحملات التعبئة العامة والتحريض التي يتعرض لها المواطنون يومياً من حشو، وغسل للدماغ.

نعم هذه ليست مصر الخمسينات، أوالستينات، وعصر النهضة والتنوير الذي تلا التحرر من نير الخلافة العثمانية المتخلفة التي استمرت لأربعمائة عام بالتمام والكمال، من معركة مرج دابق عام 1516 وحتى ثورة الشريف حسين عام 1917، ولا مصر أي عصر آخر سوى عصر التعتيم والإظلام، عصر البراقع والتلثم والانكسار. إنها مصر "كامب الوهابية" فقط بأحلك حللها السوداء. سنوات طويلة من الضخ الأجوف لفكر غيبي ميتافيزيقي كارثي كانت كافية لأن تجعل مصر على ما هي عليه اليوم من وجوم، وشلل فكري عام، وتأزم، واحتقان، ومراوحة في المكان. وهنا، وواقع الحال، لم يكن هناك من بد لأن يبقّ، وزير الثقافة المصري، الأستاذ فاروق حسني، هذه "البحصة" التي وقفت في حلقه، على ما يبدو، طويلاً، ويغلنها على الملأ، وكان لا بد، أيضاً، من رميها، ودون رتوش وطلاءات خطابية وتنميق معتاد، في وجه مجتمع يزداد غلواً، وانغلاقاً، ونكوصاً، وتطرفاً، وارتداداً نحو ماض أفل وغاب.

لقد بلغ السيل الزبى. ووصلت الأمور إلى مراحل دفعت بوزير معتدل، ووقور، ومثقف دمث الأخلاق لأن يشير إليه بهذا الشكل المباشر، وبعيداً عن أية بروتوكولات، ومراسم دبلوماسية معتادة. وقد قال السيد الوزير ما يجب أن يقوله، وفي التوقيت المناسب وهو ينطق، ولا شك، بلسان كثيرين ممن فرض عليهم إرهاب جماعات التأسلم السياسي الصمت بالعنف، والترهيب مرة، كما هو حال السيد القمني، والكثيرون من أمثاله، أوبالتصفية الجسدية تارة أخرى، كما حصل مع فرج فودة.

وأثناء تجوالي في رحلتي المنكوبة، في الصيف الماضي في شوارع القاهرة، أصبت بصدمة ورعب حقيقيين. لا شيء سوى الحجاب، والنقاب، والجلاليب، ومظاهر "التوهيب" الجارية على قدم وساق. ولا بد هنا من التأكيد على أننا نحترم خيارات الناس، جميع الناس، وهذا من حق أي إنسان أن يعتنق، ويمارس ما يريد. ولكن حين يتحول الأمر لعمل غايته سياسية وظاهرة عامة، دون استثناءات وبدائل وألوان، إلا ما رحم ربي، وندر، ودون أية "خيارات" أخرى، فهذا يدل على أن هناك تياراً خفياً، خطراً، ذا أهداف، وأجندة غير بريئة، يدفع الأمور دفعاً، وقسراً بهذا الاتجاه الأحادي الفج، وأن هناك قوى بعينيها تحاول أن تعلن عن نفسها، ولونها الخاص في كل مكان، وتثبت ذاتها فقط دون الآخر. نعم هذه ليست مصر التي عرفناها، والتي رسمها في أذهاننا التاريخ، والفن والسينما المصرية في سنوات تألقها ومجدها التليد، وهذه ليست القاهرة التي نريد مركزاً للإشعاع والتنوير لا منصة لإطلاق فقه التكفير، وراجمات الإخوان المسلمين، والعودة للوراء آلباف السنين كما أسلف الوزير حسني . ويخال إليك، لوهلة، أنك في شوارع قندهار، أو إحدى حارات كشمير، أو في إحدى ولايات و"متصرفيات" أمراء الخليج. لقد هالني ما رأيت. وتحولت رحلة العمر، والأحلام إلى كابوس حقيقي لم أتخلص منه إلا وأنا على متن يخت تجاري فخم كان يمخر عباب البحر الأحمر ليقلني إلى ضفة أخرى، كنت أمني النفس فيها بقليل من نور افتقدته كثيراً في مصر كامب الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

ذبلت مصر، وذهب ألقها، وبهاؤها، ونضارتها، وضياؤها الإشعاعي ورسالتها التنويرية بين "الكامبين"، "كامب ديفيد" السياسي، و"كامب" بن عبد الوهاب السلفي. فهل هو قدرها أن تبقى تترنح، دائما، بين "الكامبات" القاتلة والقادمة من وراء حدود البلاد؟ وعلى أي "الكامبين"، يا مصر، تميلين؟