المرأة وسؤال تحررها



فهد المضحكي
2024 / 3 / 2

يمتلك موضوع علاقة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، حساسيات معقدة ومركبة، ولأنه موضوع صراع قديم داخل المجتمعات البشرية، فقد استعملت آلياته في الصراع كثيرًا من أصناف الأسلحة والأقنعة، التي تم ويتم فيها توظيف مختلف صور الذكاء الإنساني (ذكاء الرجال وذكاء المرأة)، بهدف تكريس مواقف ومواقع محددة في التراتيب الجنسي والاجتماعي. كما تمت ولا تزال تتم فيها كثير من صور التواطؤ والتناور، وتبادل المواقع الرمزية رغم مظاهر سيادة مواقع بعينها، حيث تتيح المناورات المستعملة في الحروب المعلنة بين طرفين في التاريخ كثيرًا من وسائل التمويه والمراوغة. ولأن استئثار الرجال بالهيمنة الفعلية والهيمنة المصطنعة والمتخيلة عَمَّر طويلاً، وصنع كثيرًا من العلامات الراسخة، فقد نتج عن ذلك كثير من صور الحيف والإقصاء، وكثير من مظاهر العنف والعنف الرمزي الظاهر والمبطن.

ما يدفعنا إلى البدء بهذه المقدمة، ما كتبه الباحث والأكاديمي المغربي د. كمال عبداللطيف بأحد أعداد مجلة «العربي» الكويتية تحت عنوان «سؤال تحرر المرأة المُتجدد».

يقول في بداية حديثه: لم يعد أحد يجادل اليوم في الدور الذي لعبته عوامل تاريخية قوية، من قبيل الثورة العلمية وميلاد المجتمع الصناعي، وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي في تغير كثير من ظواهر المجتمع البشري، ومن بينها العلاقة بين المرأة والرجل، فقد ركبت العوامل التي أشرنا إلى بعضها، معطيات جديدة سمحت بإمكانية تصور أنماط للعلاقة بين الجنسين أكثر تكافؤًا وأكثر عدالة، تصور يعي نسبية المنتوج الاجتماعي، ونسبية القيم التي تواكبه، وتمنحه الصور التي يتمظهر بها، والقيم الثقافية والأخلاقية التي يلْحَم بها فجوات البنيان الاجتماعي، ما يسعفه ببناء توازنه والمحافظة على تماسكه واستمراره.

وفي ضوء هذا، يتضح أن ما ذكره عبداللطيف حول قضية تحرر المرأة له أهمية ودلالة حقيقية في ظل ما تعانيه المرأة من أزمات تعصف بأحلامها في التحرر والمساواة. وكما هو مذكور في بداية رؤيته، نستعيد في اليوم العالمي للمرأة سؤال تحررها، الحركية المتدرجة والبطيئة لعملية التحرر، وخاصة في باب القوانين المنظمة للأسرة، والقوانين التي تتيح للنساء المشاركة في الحياة السياسية. وإذا كان من المؤكد أن العالم أجمع أستأنس بكون النساء قادمات، إلا أن هذه الحركية لا تعادل درجة الضغط المتواصلة ضد النساء في كثير من أبواب الحياة داخل المجتمع. صحيح أننا نجد في مختلف المجتمعات الإنسانية اليوم طلائع من الفاعلين في حقل العمل الجمعوي المدني، والعمل السياسي الهادفين إلى تمكين النساء من الوسائل التي تساعدهن على تقليص من حدة الأوضاع التي تتخبّط فيها شرائح هائلة منهن. إلا أننا مع ذلك، نتصوّر أن ما تحقق من منجزات في هذا الباب، لا يُكافئ حدّة الضغوط والإكراهات، التي لا تزال تمارسُ عمليات خنق متواصلة، لكل التحركات الهادفة إلى منحهن إمكانية تطوير مجال مشاركتهن في فضاءات الشأن العام ومجالات الإبداع والإنتاج.

ولأننا ننظر إلى موضوع تحرر المرأة من الزاوية الثقافية، فإنه يمكننا أن نتحدث عن الدور الذي لعبته العلوم الاجتماعية في عمليات إعناء التصورات والمواقف، التي تتصارع في مجال النظر المرتبط بقضايا الحضور الذي كان يتمتع به السجل المعرفي التقليدي المهيمن على التصورات والمواقف في هذا المجال. وقد لاحظنا في المجتمعات العربية استمرار حضور كثير من العادات البالية في توجيه الرأي العام، في موضوع النهوض بواقع المرأة العربية، وذلك رغم نوعية الجهد الذي بذله مفكرو النهضة العربية، ويبذله اليوم الإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي، من أجل التعريف بكل ما يسهل المواءمة بين الموروث التقليدي ومكاسب التحول والتغيير.

وإذا كان المشهد السياسي في كثير من المجتمعات العربية، يبرز بعض صور الحضور التي أصبحت النساء داخل مؤسسات العمل السياسي ومنظمات المجتمع المدني، فإن كل ما حققته المرأة العربية في العقود الأخيرة من مكاسب، لا يعفينا من مواصلة التفكير في أسئلة التحرر والتحرير والمساواة، لعلنا نتمكن من وقف العودات الرامية إلى توظيف التقاليد من حجب النساء مرة أخرى عن المجتمع، وعزلهن داخل البيوت... وهنا يشير إلى أدبيات الإسلام السياسي الجديد، وشبكات الإفتاء التي تعولمت، ومنحت الخطاب المحافظ والفكر التقليدي مواقع وفضاءات مناهضة لكل خطابات التحرر والتنمية، وإدماج النساء في الاقتصاد السياسي والإنتاج والإبداع.

لقد عادت كثير من فصائل الإسلام السياسي، وفي أغلب الساحات العربية إلى لغة الحجاب. لغة «الداخل والخارج»، لغة «الغزو» و«الاختراق» مُحاولة تطويق أفعال التشبيك التي حصلت في فضاء مؤسسات المجتمع المدني النسائية العربية، المتصلة بصورة أو بأخرى ببرامج المنتظم الدولي، في موضوع النهوض بالمرأة وتعزيز مسيرة التنمية الإنسانية، بحكم أنها الأس المساعد في عملية تخطّي عوائق النهضة والتقدم في عالمنا. وما يدعو إلى العجب في هذه العودة هو برنامجها المضاد في التشبيك الذي يعتمد شَفرةً مُحددة في عملية التنسيق بين المنظمات ذات الهدف المشترك، حيث نصبح أمام فعل لا يرى أي مانع بدورة التوظيف البرجماتي لآليات الخارج، خدمة لأهداف تروم مواجهة ما يعتقد أنه «جاهلية ومادية الأزمنة المعاصرة».

إن نعت الحركات النسائية العربية بالحركات المتعولمة، لا يستوعب المنحى الإيجابي والتاريخي لهذه الحركات، ولا ينتبه للطابع النقدي والروح الكونية التاوية وراء خطاباتها ومشاريعها في العمل.

لهذا السبب يصبح الصراع مضاعفًا، بحكم أنه يستند إلى سجليَّن معرفيين متناقضين: سجل مسجون في لغة الماضي المُنمَّط بصورة لا تاريخية، وسجل المستقبل المفتوح على إعادة بناء الذات في ضوء مكاسب الأزمنة المعاصرة... وبين السجلين مسافة نظرية وتاريخية لا يمكن أن تتقلص إلا بالعمل المتواصل، من أجل مجتمعات أكثر تكافؤًا وأكثر عدلاً، وهو أمر يندرج ضمن أفق في الإصلاح تُعدُّ المسافة النسائية فيه محورًا من المحاور المركزية، بحكم الموقع الذي تحتله داخل المجتمع، وبناءً على الحساسيات السياسية التي وَلَّد وسَيولد في التاريخ.

وعلى صعيد آخر، ترى الأديبة د. نوال السعداوي أن النظام الرأسمالي يواجه أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وأخلاقية عنيفة، تهدد بسقوطه لولا المحاولات المستمرة لإصلاحه، والتخفيف من الظلم واللامساواة المتزايدة، والتغطية على الفساد المالي والخداع الديمقراطي في الانتخابات والسوق الحرة.

جاء ذلك في أكثر من دراسة وبحث للسعداوي. ومن هنا تعتقد أن الترويج للكتب الجديدة الناقدة للرأسمالية التي ازدادت شراسة، تحت عنوان اسم مكافحة الفقر والظلم واللامساواة المتزايدة، هي عمليات إنقاذ للنظام الرأسمالي ومؤسساته وأرباحه، وحجب النقد الجذري الأعمق للرأسمالية ونظامها الطبقي الأبوي العنصري في العالم. قامت بهذا النقد المهم باحثات نسائيات من مختلف البلاد، يربطن بين العلوم الطبيعية والإنسانية.

لعب الإعلام الرأسمالي العالمي دورًا في ترويج كتاب الاقتصادي الفرنسي «توماس بيكيتى» بعنوان «رأس المال في القرن الواحد والعشرين»، واعتبروه ثورة في نقد الرأسمالية، يشبهونه بكتاب كارل ماركس «رأس المال»، وكان كارل ماركس رائدًا في نقد الرأسمالية، خاصة الظلم الاقتصادي الواقع على طبقة العمال، لكنه، كما تقول السعداوي، لم يدرك الظلم الجنسي والاقتصادي الواقع على النساء.

في حين أن الاقتصادي الفرنسي «بيكيتي» لا يقدم نقدًا شاملاً للنظام الرأسمالي، ويكتفي بشرح أسباب زيادة الظلم أو ظاهرة «اللامساواة» المتزايدة، وكأن اللامساواة ظاهرة طبيعية، ويتجاهل في تحليله أرباح الرأسمالية الناتجة عن استغلال عمل النساء والفقراء والسود والمهاجرين من جنسيات أخرى.

إنه الصمت الشائع «لأغلب الباحثين» عن الاستغلال الجنسي العنصري المتزايد على النساء في ظل النظام الرأسمالي، مع أنه لا يمكن علميًا أو عمليًا فصل الظلم الطبقي والعنصري عن الظلم الجنسي الواقع على النساء.

يكمن تزايد تراكم رأس المال في تزايد الاستغلال الواقع على النساء والفقراء في آنٍ واحد. يظل «العمل» في نظر المؤلف أرقامًا مجردة، وليس جهودًا بشرية يقوم به نساء وأُجراء وأطفال. ويحاول إثبات أن اللامساواة موروثة أكثر منها نتاجًا لنظام سياسي غير عادل، ويحاول إقناعنا بأنه يمكن للرأسمالية تصحيح نفسها دون تغيير النظام.