ابن رشد والمرأة



عقيل عيدان
2006 / 12 / 3

يستدعي الجمع بين الفيلسوف والعالِم العربي أبي الوليد ابن رشد (1126-1198م) والفكرِ الحر التساؤلَ عن وجاهة الراهنة لأفكار هذا الفيلسوف في المجتمعات العربية. وبالتالي أين تكمن أهمية ابن رشد اليوم بالنسبة لمثقفين عرب، يقيمون داخل البلاد العربية وخارجها، ويدعون إلى تحرّر الفكر وإلى تحرير المجتمع والإنسان، ليس فقط في بلدانهم، بل في العالم أجمع من مختلف القيود الاجتماعية والسياسية والدينية؟
وإن عدنا إلى كتب التاريخ وجدنا انه ما من فيلسوف عربي لاقى فكره المصير الذي لاقاه فكر ابن رشد، وصار موضع جدل ورفض وقبول على حدٍّ سواء. ففيما أهمل الشرق العربي قروناً عدة كتابات ابن رشد، اهتمت بها أوروبا اللاتينية اهتماماً عظيماً. وصارت "الرشدية" مذهباً فكرياً، ساد أوروبا في القرون الوسطى وعصر النهضة، فكان له أتباع ومناوئون على حد سواء ولعب دوراً كبيراً ليس فقط في مجال الفلسفة النظرية، بل أيضاً في تطوير النظريات السياسية والاجتماعية. والمعروف أن اسم ابن رشد اقترن باسم أرسطو. ولكن اسمه كان أيضاً رمزاً "للزندقة" ولازدواجية الحقيقة. لقد أسيء فهمه بقدر ما عُظِّم. كما أن آثاره أضحت موضع تفاعل حضاري، تلاقى فيه الشرق والغرب، والعرب واليهود والأوروبيون، ترسخت ظاهرةٌ حضاريةٌ ما أحوجنا اليوم إلى مثلها!
ربما كان أول ما يخطر في البال حين نتكلم عن "تحرّر" فكر ابن رشد هو تحرّره من أثر التقليد الديني ومحاولته التوفيق بين الدين والفلسفة من دون التضحية بشيء من أصول كلٍّ منهما. وقد قاد تمسّك ابن رشد بالحكمة والشريعة على حدّ سواء إلى الظن بأنه اعتقد بوجود حقيقتين: حقيقة الدين وحقيقة الفلسفة. وهذا برأيي خطأ. فابن رشد لم يعتقد إلاّ بوجود الحقيقة الواحدة التي يجتهد في اكتشافها العقل البشري المتعاطي العلم، ويكشف عنها الوحي الإلهي للأنبياء، ويضمِّنونها كتبهم.
لقد اعتقد ابن رشد بحقيقة واحدة ومسالك مختلفة إليها. وإيمانه بتعدّد الطرق التي تفضي إلى الحقيقة هو أساس حرية الفكر لديه. ذلك أن الأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلى الحقيقة الواحدة، "والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له." إنه لموقف رائع، يعلّم احترام الآخر وقبوله كما هو من دون تحفّظ.
وانطلاقاً من وحدة الحقيقة تنكّر ابن رشد لرفض دراسة العلوم، مهما كان مصدرها، وقال بالاستفادة من انجازات الفكر، بصرف النظر عما إذا كان المفكر وثنياً، أو تابعاً لدين آخر. فالمعيار الوحيد الذي أخذ به هو صحّة المعرفة. ولم يعتبر أن مصدرها سببٌ لانتقاصها من دون فحص. وهذا في تقديري، انفتاحٌ حضاري، نحن الآن في أمسّ الحاجة إليه لبناء ثقافة عربية جديرة لأن يكون لها مكان لائق في مجتمع حضارات العالم.
إن الروح "الرشدية" لا تقبل التضاد الشائع اليوم لدى كثير من المثقفين العرب الذين يعيشون على ثنائية الشرق والغرب. ذلك أن هذه الروح تؤمن بأن الحقيقة تتجلّى في الشرق والغرب معاً، وان الحق يميَّز من الباطل نتيجة الدراسة والاختبار والتمحيص.
وبالعودة لموضوع (ابن رشد والمرأة)، نرى أن في قضية حقوق المرأة ومساواتها بالرجل فقد قال ابن رشد قولاً كان سابقاً لعصره.
فقد تحدث ابن رشد عن المرأة في كتاب ((جوامع سياسة أفلاطون)) وهو من كتبه المفقود أصلها العربي وصلنا عنه تلخيص للمفكر الفرنسي ارنست رينان (1823-1892) في كتابه ((ابن رشد والرشدية)). ورأي ابن رشد في المرأة هو رأي المعاصرين من غلاة أنصارها، ونقتبسه بنصه كما أورده رينان مترجماً هن اللاتينية إلى الفرنسية وترجمة عادل زعيتر إلى العربية في لغة ليست قريبة من لغة ابن رشد وقد حاول المفكر هادي العلوي (1932- 1998م) تقريبها جهد الإمكان بالتصرف في عبارات المترجمين:
[ (( تختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما. ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض الدول في إفريقيا على استعدادهن الشديد للحرب. وليس من الممتنع وصولهن إلى الحكم في الجمهورية (يشير إلى جمهورية أفلاطون) أوَلاَ يرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟)).
كتاب جوامع سياسة أفلاطون هو تعليق ابن رشد على جمهورية أفلاطون ثبّت فيه أفكاره الخاصة به كما كان يفعل دائماً في شروحه على أرسطو. وهو في حديثه عن المرأة يخالف أساتذته اليونان والمسلمين معاً، فينكر الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة ويساويها مع الرجل في الكفاءات الذهنية والعملية. ويرى أن وصول المرأة إلى رئاسة الدولة هو من الأمور الطبيعية الممكنة. وفي هذا ردّ على حديث ((لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة)). ولا تقل كفاءة المرأة عن الرجل حتى في الحروب. على أن المثال الذي يشير إليه من بعض الدول الأفريقية فهذا الاسم كان يطلق على جزء من بلاد المغرب يحوم حول تونس ولم يكن التقسيم إلى قارات متبعاً عند الجغرافيين. ويتخذ ابن رشد من حالة إناث الكلاب دليلاً طبيعياً على صلوح المرأة للرئاسة، والطبيعة عنده تعمل بقانون واحد في الحيوان والإنسان ويتطابق فعلها فيما يخص هذه المسألة من جهة أن الأنوثة ظاهرة طبيعية تفعل في نطاق مجتمعي].
إن ابن رشد في النص السابق الذي أورده رينان في كتابه، يعلن أن النساء والرجال نوع واحد وان لا فرقَ بين الرجل والمرأة في الغاية الإنسانية. والفرق الوحيد الذي يراه هو في احتمال الكد الجسدي الذي يَقدر الرجل عليه أكثر من المرأة، فيما أن النساء أكثر حذقاً في أعمال أخرى، كفن الموسيقى. وبما انه لا فرق بين المرأة والرجل في الطبع الإنساني، وجب على النساء أن ينلن التربية نفسها التي يحظى بها الرجال وان يشاركنهم سائر الأعمال، حتى الحرب والرئاسة.
إن النضال من اجل تحسين وضع النساء وبالتالي من اجل تحسين الوضع الاجتماعي في العالم العربي بأسره هو نضال إنساني أراده ابن رشد. وكلُّ من يساهم في هذا النضال وينفتح على الحضارات والثقافات الأخرى في العالم، معترفاً بوحدة الحقيقة، يقتفي آثاره في سبيل تحرير الفكر وبناء مجتمع راقٍ وإنساني راق.