قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق



بلسم مصطفى
2024 / 4 / 6

"إن البعض يعتقد أن... المناداة بنهضة المرأة العراقية نفخٌ في رماد، فهؤلاء وأمثالهم معتادون إطفاء الأرواح ولعلهم من بقايا الوائدين".. عن قرن من النسوية في العراق..

أن تكون المرأة أو الرجل أو مؤسسة ما، نسويةً في أيامنا، يعني اضطرارها للتعاطي مع تهم جاهزة باستيراد قِيَم دخيلة على المجتمع العراقي والعمل لصالح أجندات أجنبية.

مردُّ هذه التهم التي ما فتئت “تشيطن” النسوية ومتبنّيها هو انعدام وضوح تاريخها المحلي في العراق وتجلياتها في الحقب المختلفة.

عبر الرجوع إلى كتابات رائدات عراقيات مطلع القرن العشرين وتتبع رحلتي الشخصية والبحثية في التعرف على النسوية والتنقيب في جذورها، أقدم في هذه المقالة طرحاً يناقش محلية النسوية وأصالتها لغةً واصطلاحاً قبل كونها ممارسة ونشاطاً وفعل مقاومة، تاريخ ضارب في القدم يصادف هذا العام مرور مئة عام على أول مرة ذُكرت فيها مفردة النسوية في العراق.

لماذا نجهل النسوية؟
لم تكن لديّ لغاية عام 2017 أدنى فكرة عن النسوية كمصطلح أو كفكر. سيأخذني عدة أعوام قبل أن أدرك أني لم أكن وحدي في ذلك، حتى بين قريناتي من الباحثات والناشطات العراقيات، بحكم أن هذه المعرفة ظلت حبيسة الدوائر الأكاديمية والنخبوية حتى وقتٍ متأخر من الألفية الثانية. ثم ما فتئ أن شاع استخدام المصطلح مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي واعتماده من قبل محتجي ومحتجات انتفاضات الربيع العربي، فأخذ الخطاب النسوي بالبروز وتبنته العديدات من الأجيال الشابة.

تزايد اهتمامي بالقضايا المعنية بالنساء ذلك العام أثناء كتابتي أطروحة الدكتوراه حول سرديات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي وترجماتها عن طريق الإعلام المحلي والعربي والدولي، متطرقة في أحد الفصول إلى سبي الإيزيديات، حيث اتسعت معرفتي حول الاستغلال الجنسي كسلاح حرب ضد النساء بالدرجة الأولى والأطفال بالدرجة الثانية. وحصل حينها أن خاطبتني زميلة تُحضّر لأطروحة ماجستير لتستشيرني عن مصادر تخص “النسوية الإسلامية”، فما كان مني إلا أن أجبتها بكل سذاجة وصراحة: “أنا لا أعرف ما هي النسوية أصلاً.. فكيف لي أن أعرف ما هي النسوية الإسلامية؟!”.

ذلك مع أني ومنذ سنوات المراهقة كنت مدركة للتمييز على أساس الجنس وأن للنساء حقوقاً سُلبت من الكثيرات منهن. كنت قارئة نهمة لكتب نوال السعداوي من دون أن أعي أنها كتابات نسوية، ومن دون أن أدرك أن النسوية تمثل مجموعة رؤى وفلسفات وحركات تتلاقى وتختلف في مقاربتها للكثير من القضايا. كانت تلك القراءة ذاتية ولم أتلقَ تعليماً فيه أي إشارة إلى الوعي النسوي أو إرهاصاته. حتى أنني حين تخصصت في حقل الترجمة في الجامعة بعد سنوات، حُرمت من التعرف على مادة منهجية مهمة تُدرس في جامعات أخرى في العالم، هي مادة الترجمة النسوية؛ ولا تزال هذه المادة مُغيّبة في الأقسام التخصصية في العراق حتى هذه اللحظة.


لم يأتِ هذا التجهيل من فراغ، بل هو نتاجٌ حتميٌّ للعزلة السياسية والاجتماعية التي عاشها العراق خلال سنوات الحروب والعقوبات الاقتصادية وما تلاها من غزو واحتلال ونزاعات، ساهمت في ظهور وتقوية أشكال جديدة من المنظومة الأبوية قانونياً وعشائرياً وعسكرياً ودينياً، وبالتالي معرفياً ومفاهيمياً. وحتى مع تطور المجتمع المدني في العراق بعد عام 2003 انبثقت عنه منظمات معنية بحقوق المرأة، إلا أن النسوية لم تكن مألوفة بعد، علاوة على أن هوة كبيرة نشأت بين هذه المنظمات وغالبية النساء في المجتمع العراقي، وفق الناشطات اللواتي قابلتهن في دراستي ما بعد الدكتوراه الخاصة بالنشاطية النسوية وعلاقتها بوسائل التواصل الاجتماعي في سياق العالم العربي، ما يعني أن هذه لم تساهم بشكلٍ كافٍ في التطور المعرفي حول النسوية في العراق.

حثني سؤال زميلتي على التفكر بكل ذلك وأثار فضولي للتعرف أكثر على الاصطلاح، فبدأت ألحظ وجود الكثير من الصفحات العربية المعنية في خلق وعي نسوي، والتي سرعان ما صارت مدخلي لمزيد من القراءة والبحث والتعمق في الكتابات النسوية. ولكن هذه كانت لتكون ناقصة لولا إسهام معرفتي باللغة الإنجليزية وسهولة وصولي إلى المصادر المتنوعة والمعمقة في تطوير وعيي إلى معرفة يصقلها التعلم اليومي.

ولأن القدرة على الاطلاع على هذه المصادر هو امتياز لا تتمتع به الكثيرات من المعنيات بالبحث عن معنى النسوية للأسف، فإنهن يعتمدن كلياً على وسائل التواصل الاجتماعي -وحتى هذا ما يزال غير متاح للكثيرات- وهي بطبيعة الحال لا يُمكن أن تكون كافية في إنماء الحس المعرفي.

تصطدم متصفحات وسائل التواصل الاجتماعي بخوارزميات وهيكليات نيوليبرالية، تعطي أولوية للمحتوى التسليعي الربحي والتجاري على حساب المحتوى التعليمي، وتتشت بسبب المجاميع والحسابات المتسلقة أو المستولية على بعض الأفكار النسوية بغية تحقيق أغراض تسويقية، إلى جانب الشبكات والأفراد المناهضين للنسوية والكارهين للنساء عموماً؛ ما يعني أن هذه تشكل مناخاً غير مناسب لتطوير الوعي وإنمائه.

النسوية بين الترجمة والتضليل
منذ اللحظة الأولى للشروع في رحلتي البحثية سواءً تلك التي تكونت داخل العراق، أو تلك المرتبطة بتواجدي وتفاعلي على السوشيال ميديا كأكاديمية وناشطة، ما انفك يلازمني السؤال حول مصدر كلمة “نسوية” وهل كان مُستخدماً محلياً أم جاء إلينا عن طريق النقل والترجمة لمفردة “فيمنزم” (feminism)؟

غالباً ما يُوظف السؤال عن أصول مفردة النسوية عربياً وفي العراق كحجة تنزع الأصالة والخصوصية المحلية من أي نشاط أو ممارسة تتبنى المبادئ والمنطلقات والمناهج النسوية. ألصق ذلك “وصمة” بمفردة النسوية باتهامها بأنها فكر مستورد من الغرب، غايته إرباك وتحدي القيم والعادات والأعراف المحلية وإفسادها لصالح قيم وأعراف دخيلة. استفاد هذا التشويه من الحجب والتغييب القسري لأي معرفة نسوية رصينة، لصالح هيمنة المناهج التعليمية المُكرسة للأيديولوجيات والسرديات السلطوية الأبوية.

ليس النقل عن طريق الترجمة تهمةً بحد ذاته.

فالسياق والمناخ العام في المجتمعات الغربية مكّن من سرعة ابتكار وتطوير مصطلحات لوصف ظواهر بعضها عالمية، تشترك فيها مجتمعات عدّة على اختلاف مشاربها وتنوع خلفياتها وتجاربها ومعاناتها واحتياجاتها.

لعلّ أبسط مثال يوضح هذه المقاربة هو مفردة “التنمر”، مع التحفظات على الترجمة العربية الإشكالية، فهي لم تكن مستخدمة في القاموس العربي وإنما انتقلت إليه عبر ترجمة مفردة “بوليينك” (bullying). فهل هذا يعني أن ما بات يُعرف اليوم اصطلاحاً بالـ”تنمر” لم يكن ممارساً في السابق؟ أم أنه كان حاضراً كممارسة ولكن كانت تنقصنا الأدوات اللغوية للتعبير عنه؟


الأمر ذاته ينطبق على مصطلحات أخرى، كمصطلحيّ الجندر والنسوية. بيد أنه حينما يكون ثمة مرادف لغوي غائب، تُخلق فجوة قد تُملأ بفحوى مضلل وغير صحيح، ما أسميه “عملية التضليل الترجمي” (distranslation)، وذلك ما حصل بصدد الحملة الممنهجة ضد مفردة الجندر والتي أدت في النهاية إلى حظرها نهائياً في العراق.

إلا أنه في حالة مفردة النسوية، خلافاً للجندر، الكلمة عربية النطق والكتابة وليست مُعربة.

يؤكد ذلك شيوع استخدام نسوية كصفة تشير إلى العنصر النسائي في السياق العراقي، حيث تُستخدم على نطاق واسع في العراق للإشارة إلى الحوزات والحسينيات النسائية وكوادرها في مقرات الأحزاب السياسية، الأقسام والشعب النسائية في المؤسسات الدينية، وتلك التابعة للشرطة المجتمعية والقوى الأمنية، وغيرها من الكوادر النسائية في المؤسسات الحكومية. ولا أعتبر هذا التوظيف للنسوية كصفة محاولةً للاستيلاء على المصطلح أو لاختطافه وتغيير سياقه الوظيفي، بل إن تداولها بهذا المعنى نابع من تجذرها في القاموس والمعجم العربي، إذ تعود “النسوية” في معجم لسان العرب إلى “نسوة”، والمراد بها هنا “إضافة” أو صفة، كما يذكر سيبويه، تشير إلى الجنس البيولوجي للنساء.

أي أن لا علاقة هنا بين النسوية كمفردة عربية وبين النسوية كحركة أو كفلسفة أو أيديولوجيا. ومع ذلك فإن التصور السائد أنها أتت عن طريق الترجمة، من دون معرفة متى حصل ذلك ولمن تنسب الأسبقية في ترجمتها لفيمنزم.

ورغم أن النقل عن طريق الترجمة ليست تهمة عيباً كما أسلفت، لكن يبدو أنها كانت حجة ناجعة لكل من أراد الطعن بالنسوية والمتصفات أو المتصفين بها، قافزاً على واقع النساء ونضالهن عبر مراحل مختلفة من التاريخ؛ وإن عانى هذا النضال من تشتت وتفكيك فذلك لأسباب تعود للأنظمة الحاكمة، والقوى المجتمعية والدينية المحافظة، والحروب والنزاعات التي حدت من قدرة الناشطات والمهتمات في حقوق المرأة من تشكيل حركة واضحة المعالم تتسم بالوحدة والاستمرارية.

تشكل في ظل هذه الضبابية تصور منقوص وغير صحيح حول معنى النسوية. فمثلاً، لطالما جادل عبد الوهاب المسيري أن النسوية هي “ترجمة خاطئة” للفيمنزم، مفضلاً “حركة التمركز حول الأنثى”، حتى يُثبت افتراضه بأن الفيمنزم لا تصبو إلى تحرير المرأة، بل الى ترسيخ الفوارق بينها وبين الرجل من دون وجود مرجعية مشتركة بينهما، وكأن المسيري يحاول أن يقول إن الفيمنزم غايتها خلق الضغينة والفرقة بين الرجال والنساء.


تعد مثل هذه التوجهات اختزالاً وتسطيحاً لمجموعة مدارس وفلسفات وأفكار متنوعة تدور في فلك النسوية، وتّجنياً لا مبرر له يهمل ويتغافل عن أهم الكتابات النسوية التي وضعت المجتمع ككل نصاب عينيها. فواحدة من أهم التعريفات للفينزم -كمفهوم أنغلوساكسوني- قدمته الكاتبة والناقدة والأكاديمية النسوية الأمريكية السوداء غلوريا جين واتكنز، المعروفة باسمها المستعار بيل هوكس، إذ عّرفتها على أنها “حركة لإنهاء التمييز والاستغلال والاضطهاد على أساس الجنس”، ولطالما جادلت في أبحاثها وكتبها أن النسوية للجميع ولا تهدف لمعاداة أو إقصاء أحد. غني عن القول إن مبدأ العدالة الاجتماعية يعد ركيزة أي حركة أو فكر حقوقي، ومن ضمنها الفيمنزم أو النسوية، ومن دونه لا تكون هناك نسوية في المقام الأول.

أما في العالم العربي، وبحسب الباحثة التونسية زينب التوجانيi، مستندةً في طرحها على الباحثة اللبنانية حُسن عبود، فإن النسوية بوصفها اصطلاحاً أو مذهباً لم تتجلَّ قبل تسعينات القرن الماضي إذ مثلت تلك الحقبة لحظة تبلور “الوعي النسوي” في العالم. عليه فتخلص التوجاني إلى أن التسعينات لم تكن لحظة بدء تداول النسوية كفكرة من قبل الباحثات النسويات فحسب، بل الأهم من ذلك أنها تحولت إلى ممارسة حينما بدأت النسويات العربيات بالنأي بأنفسهن عن السلطات الحاكمة وإنشاء منظماتهن وجمعياتهن المستقلة. هكذا شهدنا نشوء مدارس فكرية نسوية مختلفة، منها “النسوية الإسلامية” و”النسوية العلمانية”. وفي عام 2009، اجتمعت مجموعة من النسويات والباحثات العربيات في مؤتمر نظمته الجامعة الأميركية في بيروت لتقييم النسوية العربية نظرياً وعملياً لأول مرة. وكان أحد استنتاجات المؤتمر أن النسوية -لغة ومفهوماً- ذات جذور عربية خالصة مرتبطة بنساء المنطقة ومسار كفاحهنّ التاريخي الخاص بهنّ، بيد أنها لم تتمخض بعد عن حركة متجانسة وشاملة. ii

وحتى ذلك العام، انحصر شيوع النسوية كمفهوم في دائرة النخبة من الأكاديميات والأكاديميين المهتمين بالمجال النسوي. ثم ما لبثت أن تغيرت هذه المعطيات مع انتشار تقنيات الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ومع تفجر انتفاضات “الربيع العربي”، حيث بدأت النسوية كمفهوم وهوية ورؤية تنتشر بسرعة، خاصة في المساحات الرقمية العربية، مع بروز أصوات شابة من خلفيات متنوعة.iii

مئة عام على ولادة النسوية في العراق
كان سائداً في مراحل الحركات النسوية العربية على مدار القرن الماضي تعبير “نسائي”، لذا تذهب الكثير من الدراسات والأبحاث إلى اعتبار النسوية كفكر ذي مدارس وتنظير خاص به وكهوية ذاتية وجمعية، ضيفاً متأخراً في السياق العربي. وكنت أشاطر هؤلاء الباحثات ذلك الرأي حتى وقتٍ قريب إلى أن وقعت يداي على كتاب “أول الطريق”، والمعروف أيضاً بـ”أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق” الصادر عام 1958 لصبيحة الشيخ داود، الرائدة في مجال حقوق المرأة وأول محامية عراقية.iv

اللافت في عنوان كتاب الشيخ داود أن النسوية استُخدمت كصفة لـ”النهضة” -نسبةً الى حركة النهضة الفكرية والثقافية التي شهدتها الدول العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. قدمت الكاتبة في كتابها رؤية نسوية حول نهضة المرأة العراقية في شتى الأصعدة: السياسية (حق التصويت والانتخاب)، والحقوقية (الحق في التعليم والعمل ومزاولة الكتابة)، والشخصية (الحق في خلع الحجاب). استخدمت صبيحة مفردة “نسوية” كصفة في أكثر من موضع، منها “الحقل النسوي”، “الصحافة النسوية”، “سير الحركة النسوية”، “المؤتمرات النسوية”، “الجمعيات النسوية”، وغيرها؛ كلها بالتوازي مع النضال المناهض للاستعمار الرامي للتحرر الوطني والاستقلال.

والمثير في الكتاب أن الشيخ داود تقتبس من مقالٍ للصحفية العراقية بولينا حسون -وهي من أب موصلي وأم حلبية-، كان قد نُشر في العدد الخامس عشر من آذار 1924 في مجلة “ليلى” (صدر أول أعدادها عام 1923)، وهي أول مجلة تُعنى بقضايا المرأة لمؤسستها حسون، ترد فيه عبارة “النهضة النسوية”.

أشارت حسون إلى “النهضة النسوية” مخاطبة الرجال داعية إياهم لمؤازرة المرأة ودعمها في نضالها، قائلة “إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بغيرتكم وشهامتكم أيها الرجال”. تذكر الشيخ داود أن بولينا جُوبهت بعد مدة برد فعل عنيف من رجال الدين والقوى المحافظة وصلت إلى المحاكم وعرضت حياتها للخطر، ما دفعها إلى مغادرة العراق نهائياً وظلت في المنفى حتى وفاتها عام 1969، وبهذا أُسدل الستار على مجلة ليلى عام 1925 بعد صدور عشرين عددا منها فقط.

خلافاً لورود نسوية كمرادف لـ”نسائي” في وصف القسم الخاص بنادي النهضة النسائية المصري الذي تأسس في العام 1923 (وهو العام نفسه الذي تأسس فيه قرينه العراقي)، كما تذكر هالة كمال، أستاذة دراسات النوع الاجتماعي في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة القاهرة، فإن إضافة كلٍ من بولينا حسون وصبيحة الشيخ داود نعت “نسوية” لمصطلح “نهضة” أعطاه بُعداً جندرياً أوسع، يستدعي سرديات النهوض من واقعٍ ميَّز ضد المرأة وسلبها أبسط حقوقها. وما تعرضت له حسون من تنكيلٍ واتهامات يشابه ما جوبه به نادي “النهضة النسائي”، كما تسرد داود. فأثارت كلمة “نهضة” حفيظة القوى ذاتها وطالبت باستبدال اسم النادي بنادي “المرأة”. يُساعدنا هذا الهجوم، الذي لا يزال يتردد صداه بشكلٍ أو بآخر في زماننا المعاصر، أن نفهم كيف أن ترادف نسوية مع نهضة يعطيها معنىً أعمق، أكبر من مجرد صفة مؤنثة بمعنى “نسائي” فحسب.

وبالعودة لكتاب الشيخ داود، كأي نتاجٍ ثقافي في سياق زماني أو مكاني ما، غير معفى من المراجعة والنقد والتحفظات، حيث لم يخلُ كتابها من الطروحات الإشكالية، خصوصاً مبالغتها في مدح وإطراء الملك فيصل. بالمقابل، تميز بجرأة الطرح وأمانته في مواضع عدة، كفصله المعنون بـ”معركة المرأة العراقية مع الحجاب”، إذ عرضت داود بقدر كبير من الشفافية والأمانة مواقف وجدليات المؤيد والمعارض له، معتبرةً أن ذلك الجدل رغم حدته كان مثمراً، إذ كان بمثابة شرارة انطلاق الخوض في القضايا الشخصية الأخرى، من زواج وطلاق وإرث، وغيرها من دون أن تسرد تفاصيلها.


ويُرينا هذا الفصل أن المرأة العراقية هي التي قادت تلك المعركة وكانت في صفوف جبهتها الأولى. أما مواقف الرجال المثقفين من كتاب وشعراء ممن سنحت لهم فرصة السفر الى أوروبا وربما تأثروا بالتقدم الحاصل فيها، فجاءت مساندة فقط. فتقول داود بهذا الصدد بعد أن تذكر واحدة من رائدات تلك المعركة، معزز محمد توفيق برتو، مديرة مدرسة البارودية للإناث، والدور الذي لعبته في تحدي القوالب المجتمعية بعدة طرق شملت تلميذات مدرستها منذ العام 1924:

“ونحن حين نتأمل معركة المرأة مع الحجاب، لا يسعنا إلا إكبار المرأة التي ألهبت الأقلام، وأثارت حولها الأفكار، ولن ننسى أن السيدة معزز كانت صاحبة الفضل الأول في ذلك النقاش الذي خدم المرأة، وأوضح خطوط قضيتها. وكان لزاماً أن يؤدي ذلك الاحتكاك حول قضية الحجاب والسفور، القضية الاجتماعية البارزة، الى إثارة مسائل أخرى تتصل بالأحوال الشخصية بوجه عام، فضلاً عن القضايا الأخرى الدقيقة المتعلقة بالزواج والطلاق في نطاق الشرائع الدينية، والأحكام المدنية“.

استمدت الشيخ داود حججها من مصادر عدة: من داخل الدين نفسه، من حركة النهضة الفكرية، تحرر الشعوب المنوط بتحرر المرأة، و”سنة الحياة”، كما تسميها. وبخصوص معركة المرأة العراقية مع خلع الحجاب فهي كانت نابعة من رحم واقعها، ولم تكن متأثرة بالاستعمار، كما تذهب بعض الطروحات في سياق بلدانٍ أخرى. والمطلوب تجنب التعميم حتى لا يُفهم أن نساء الشعوب المستَعمرة ورجالها بدون إرادة حرة أو قرار أو فكر، فقط دمى يُحركهم المُستعمِر كما شاء ورغب.

من الفصول الأخرى المهمة هو الفصل المتعلق بـ”العراقية في الريف”، والمستند إلى عمل داود في محكمة الأحداث وما عُرِض عليها من قضايا “مسرحها الريف، وبطلاتها فتياته ونسائه… ولست أعرف امرأة في العالم عانت من النكد، والاستعباد، والتجاهل والإغفال، ما تعانيه امرأة القرية في العراق. وسيمضي عهد طويل قبل أن تنكشف هذه المأساة… وما من شك في أن سيادة الرجل جعلتها بضاعة بمعنى الكلمة، هبطت بها الى مستوى غير لائق، فضلاً عن أنه غير عادل.. وحتى اليوم لا تملك نفسها كلمة في تقرير مصيرها.. ولا في أهم أمورها الدنيوية، كالزواج”.

تدعو داود في هذا الفصل الختامي إلى مراجعة شاملة في القوانين وفي الوضع الاقتصادي لكلٍ من الرجل والمرأة حتى تتوفر معالجة جذرية حقيقية.

وكما يعكس عنوان الكتاب، فرؤية داود كانت وما زالت رؤية ناشئة في أول الطريق، ومن الطبيعي أن تعتريها الفجوات وأماكن الخلل والقصور هنا وهناك. وتُقر داود بذلك في مقدمة كتابها: “إن (أول الطريق) ليس تأريخاً بالمعنى الكامل (للنهضة النسوية العراقية)، وليس بحثاً خالصاً بالأرقام والوقائع.. وإنما هو يصور جانباً من هذا التأريخ، ويعني بإبرازه ويمهد طريق البحث عنه بإسهاب أمام اللواتي قد يتصدين له في المستقبل”.

إن ما خلصت إليه الشيخ داود أصبح اليوم منهجاً بحثياً متفقاً عليه، يعترف بمحدودية الباحث وبأن جدلياته واستنتاجاته تظل جزئية وسياقية، فكانت سباقة في هذا الإقرار. ويعني هذا بجملة ما يعني أن الأفكار تنمو وتتوسع وتتطور وتتشذب وتتقدم. وفي تطور الفكر النسوي، هناك مراحل لم تشمل كل النساء كما حصل مع الحركات النسوية في الغرب، حيث مرت بعدة مراحل أو ما بات يُعرف بـ”الموجات”، حيث لم تشمل في البداية الجميع بل اقتصرت على طبقة محددة من النساء البيض. وهذا ما حاولت المدارس النسوية اللاحقة، كالمدرسة التقاطعية وما بعد الاستعمارية، مراجعته ونقده وتصحيحه، ومع ذلك، ما تزال حتى اللحظة ثمة انتقائية وطبقية بين عدد من الناشطات النسويات أو التنظيمات النسوية التي لا تهتم بتجارب ومعاناة النساء جميعهن، بل تنتقي ما يتناسب ويتناغم مع توجهاتها ومصالحها.

وكرد فعل على هذه الانتقائية في التضامن، تُتهم مثل هذه الفئات من النسويات بأنها تمارس “نسوية استعمارية” أو “نسوية إمبريالية”.

ومع أن القصد من وراء نعت النسوية بصفات تتعارض مع روحها ومبادئها التحررية هو لكشف نفاق المدعيات للنسوية وفضح ازدواجيتهن في التعامل مع القضايا الإنسانية، إلا أن لمثل تلك النعوت أن تضر بالحركة النسوية عامة، إذا ما تناقلت عبر سياقات وحدود جغرافية مختلفة من خلال الترجمة، تحديداً في ظل سرعة الانتشار والنقل على مواقع التواصل الاجتماعي، ليزيد من الوصمة الموجودة أساساً حول النسوية ويفسح المجال أمام المتربصين بها للتعنت في مواقفهم بحجة أن من النسوية ما هو استعماري وإمبريالي، وتحديداً القوى والجماعات المناهضة للنسوية والكارهة للنساء للتمادي في تشويهها للنسوية وشيطنتها للنسويات.

وفي حالة العراق، فإن الحركة النسوية الأولى ورائداتها الأوائل كبولينا حسون وصبيحة الشيخ داود ونزيهة الدليمي، التي أصبحت أول وزيرة في تاريخ العراق والعالم العربي، كن قد حققن مكتسباتٍ مهمة، وعلى رأسها صياغة قانون الأحوال الشخصية للعام 1959 من مجموعة من أفضل النصوص والأحكام الفقهية المنصفة للمرأة ووفقاً لظروف العراقيات وواقعهن واحتياجاتهن في ذلك الزمن. هذا القانون الذي عُد الأفضل في المنطقة كان قد واجه في وقته عاصفة من الانتقاد والرفض، كما حاولت الأنظمة المتتالية، نظامي البعث وأحزاب ما بعد 2003 الدينية، تغيير بعض فقراته أو استبداله كلياً. وعلى الرغم من فشل المسعى الأخير، إلا أن عدداً من المعممين يحاولون تشويه صورة المناضلات الأوائل وسمعتهن عن طريق الانتقاص منهن أو حتى شتمهن والتجاوز عليهن. وبدأبهم هذا، يُكملون على التعتيم التعليمي المؤسساتي الذي غيب تلك الأسماء وحرم الطالبات والطلبة من فرصة التعرف على تاريخهم. هي محاولة للانقضاض على ما تبقى من مكتسبات كُتب لها التوقف عند حد معين، بعد تولي حزب البعث سدة الحكم أواخر ستينات القرن الماضي، حيث كانت بداية القطيعة مع النهضة النسوية.

2024 أم 1924؟
ونحن نستذكر مرور مئة عام على ميلاد النسوية في العراق والذي يُصادف مع يوم المرأة العالمي، نجد أن التاريخ يعيد نفسه؛ إذ لا تزال النساء يراوحن مكانهن، كأنما يعشن في الماضي البعيد.

تُخبرني النسويات اللاتي تحدثت إليهن ضمن نطاق دراستي، أن النسوية تعني لهنّ “الحق في الحياة” بعد أن أمسى وجودنا مسألة “مزاج”. فاليوم يضيق الخناق على العراقيات أكثر من أي وقتٍ مضى، إذ تُحاصر الأحزاب الحاكمة والسلطات الدينية والأنظمة العشائرية النساء من كلِ جانب، وتحث الخطى للإمعان في اضطهادهن عن طريق المضي بتشريع قوانين جائرة، وملاحقة الناشطات والمنظمات، بحجة الجندر، وتقييد عملهن وتقليص مساحاتهن يوماً بعد أخر.

بعد قرنٍ على المناداة بالنهضة النسوية، لا تزال العراقيات، طفلات وبالغات، يقفن ويُكافحن كأنما ما زلن في أول الطريق، بعد أن كانت سابقاتهن قد قطعن شوطاً كبيراً فيه تفاءلن به حول المستقبل بعد “الانتصار” الذي حققته المرأة في خمسينات القرن الماضي، كما قالت داود في ختام كتابها. ولكن.. لا تزال مقولة بولينا حسون تنطبق كما لو أنها كُتبت اليوم وليس قبل مئة عام، “إن البعض يعتقد أن… المناداة بنهضة المرأة العراقية نفخ في رماد، فهؤلاء وأمثالهم معتادون إطفاء الأرواح ولعلهم من بقايا الوائدين”. بنهضة العراقيات، تحيا الأرواح، وبانتكاساتها تُوأد وتنطفئ وتموت.