فاطمة أخت البدور



مجدي الجزولي
2007 / 1 / 11

فاتنا في غمرة انشغالنا اللهوج باليومي والعابر من شأن السياسة في بلادنا أن ننتبه انتباهة المعتبر إلى حدث شغل الأوساط التقدمية العربية وبه انتشت في الربع الأخير من العام الماضي، ذلك الذي غادرنا للتو محطاته فاترة الطعم واللون، والحدث أن "مؤسسة ابن رشد للفكر الحر" قد اختارت الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم فارسة لعام 2006م فمنحتها جائزتها السنوية، فكان احتفاءاً صادف من تستحقه وتتفوق.
ولعله من نقص المدنية فينا وحكم البداوة تأففنا الزاهد عن شاهد كسب الفرد في تاريخ حياتنا الحديثة، وهو باب لخلق الرموز الوطنية لا بد لنا من ولوجه إذا رغبنا تعزيز مادة الوطن في فطن الناشئة، والاحسان إلى مصدر كل الهام للعمل والفداء العام، أي ذلك الحب العظيم، ذلك الحب الجارف الذي تجرع سابقون لنا من أجله كل مر، وخاضوا كل آسن، وضحوا بكل غال. وهو حب لا ينشأ من وحي التراب والفلوات والجغرافية المحضة، بل من وحي الانسان والحياة التي يصنعها، من وحي خبرة حية يدخرها الوعي ويتمثلها، لا يتخاذل عنها بفعل لدغها وألمها، ولا ينجذب إليها بداع متعتها ونشوتها، إنما يأخذ بها كما هي، منبعاً لرؤى الحب ومورداً، تبرر ذاتها بما هي عليه دون حوجة لقياس. ولربما كان عجزنا ابداع مثل هذا الحب بسبب الضجر، أو السأم، أو التعب، أو الاحباط هو مصدر شقوتنا، ليس بالحب وإنما بنقصه. لكن ما من محب صادق العشق يفتر عن طلب المحبوب. الصادقون سبقوا إلى صدقهم فبه سعدوا، ومن معينه نالوا فأكرموا حبهم عملاً دؤوباًَ، وفعلاً ناجزاً، وعزماً لا يلين. هكذا حب لا يحاكم بما يصل إليه آخر النهاية، إنما بالطريق، فسالكه فائز لا محالة.
من أهل الحب هؤلاء الرائدة التي بها احتفت دوائر التقدمية العربية، وقصرنا نحن في الاحتفاء بها، وفرطنا فقصرنا عن الاحتفاء بالاحتفاء. ولا نلومن إلا أنفسنا إذا خرج إلى دارة السودان من ناشئته من لا يُلقي بالاً لتضحيات سبقت في خيرها يعيش، أو لتاريخ حافل في حاضره يرفل، أو لمثال بارز على نهجه تساق الأمور أو من دروسه يستفاد؛ من لا يرى في الوطن سوى صفة لجواز سفر هامل يُفضِّل أن يهرب منها كما لو كانت الجرب، تلتصق على الأديم شامة قبح، لا شارة زينة وفخار. بالفعل، راكم حكم الاسلاميين في نفوس السودانيين من التعس والظلم والمسغبة ما استقر في أفئدتهم جفوة لذات الوطن حتى كفرت قطاعات منهم بحبه جملة، فماثلت بين السودان وبين حكامه، وجعلت من كل ما هو (وطني) عدواً وشراً مستطيراً شأنه شأن من انقضوا عليه بليل. بل زادوا بتدبيج الإدانة تلو الأخرى لكل كسب أهل الحب هؤلاء وكذلك لشخوصهم، ليس باحسان النقد الذي به نتقدم، وتعيين النقص قصد الكمال، وإنما بتعسف الهدم، حتى صارت سنة فئة من (المثقفين) أن يمتطوا صهوات ألسنتهم بالتجريح والتجديف في سابقات النضال، وفي حاضرات الهمم. الظاهرة تستحق النقاش المنضبط لا شك بتوخي الحذر من التعميم، وبتحسب الأسباب والدواعي، وبالنظر في أصولها، وعواملها، من كل النواحي، الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية السيكولوجية. مستبقين لهذا الجهد، وببعض غمة، ساقتنا الدعابة في جماعة إلى تصنيف المجدفين إلى نوعين إثنين: مناضلي الكؤوس، ومناضلي الكِي بورد، ومنهم من يجمع النعتين!
في أفق آخر أكثر اشراقاً لنا أن نسعد كل السعادة باختيار "مؤسسة ابن رشد للفكر الحر" الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم العام الماضي سيدة على السادة والسيدات في سبيل حقوق الانسان. طلبت الرائدة الاعفاء من هذا المقام تواضعاً، وقدمت الاتحاد النسائي والشعب السوداني لشغله بقولها في ختام السيرة الذاتية التي كتبت في هذه المناسبة: :"ليس هنالك قيادي أو رئيس يصنع التاريخ وحده واليد الواحدة لا يمكن ان تصفق مهما بلغت من القوة. وصدق مثلنا الذي يقول (الخيل تجقلب والشكر لحماد)، وأنا حماد. والنصر المؤزر للاتحاد النسائي ولشعبنا العظيم". كذلك كرست الرائدة كلمتها للتعريف بالاتحاد النسائي السوداني وبالمرأة السودانية، فقدمت نبذة عن تاريخ ونشاط الاتحاد، وما حقق من مكتسبات، وما صادف من اخفاقات، ذلك في حفل التكريم الذي أقيم في برلين حيث مقر "مؤسسة ابن رشد" بتاريخ الثامن من ديسمبر 2006م.
في اعلانها عن الجائزة ساقت المؤسسة عدة اعتبارات لاختيار (أم السودانيين) تحت عنوان "دورها الرائد في الحقل السياسي وكفاحها المستمر من أجل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنها والبلاد العربية". من ذلك أنها صارت بنضالها المستمر منذ ما قبل الاستقلال رمزاً لكفاح المرأة السودانية، والشعب السوداني كافة، ضد حكومات القمع العسكرية. تطرق البيان إلى دور الرائدة المركزي في تأسيس الاتحاد النسائي عام 1952م، وفي اصدار مجلة "صوت المرأة" عام 1955م، ثم قيادتها للاتحاد النسائي والنضال الصلب ضد ديكتاتورية عبود حتى نصر ثورة أكتوبر المجيدة. ثم ما أرست الرائدة في قيادة الاتحاد النسائي وكأول نائبة برلمانية من حقوق للمرأة السودانية. واستمرار كفاحها ضد ديكتاتورية النميري وضد ديكتاتورية الجبهة الاسلامية في الداخل ومن المنفى. ختم البيان ذكر فاطمة بكلمات بهية: "إن الكفاح من أجل حقوق المرأة في السودان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكفاح من أجل الاستقلال السياسي والحرية وحقوق الانسان بشكل عام. وبهذا يكون عمل فاطمة أحمد ابراهيم وصمودها في وجه الاضطهاد ودفاعها عن حقوق الانسان وسعيها الدؤوب عملاً وطنياً في ظل التحولات الاجتماعية المتغيرة بين التراث والحداثة، والاستبداد والثورة. فاطمة كانت تقتحم وتجازف وتبادر وتطالب دون كلل وبإرادة لا مثيل لها، وتكون بذلك مثلاً أعلى في العالم العربي والاسلامي. ومن أجل هذه الشجاعة تكرم بجائزة ابن رشد."
أما "مؤسسة ابن رشد للفكر الحر" فهي جمعية مستقلة تسعى بحسب الديباجة إلى دعم الفكر الحر والديموقراطية والتنوير والتسامح في العالم العربي، وهي مسجلة في ألمانيا وتقدم جوائز سنوية لمن قام بدور في دعم ونشر الفكر الديموقراطي الحر، والديموقراطية والابداع في العالم العربي. تساند المؤسسة قامات ثقافية وفكرية عربية شامخة منها عزيز العظمة، وأدونيس، وصادق جلال العظم. وقد نال جوائزها عدد من المثقفين العرب، ثاني امرأة بينهم وكعادتها في السبق، الرائدة فاطمة أحمد ابراهيم، منهم: محمود أمين العالم (2001م)، عزمي بشارة (2002م)، محمد أركون (2003م)، صنع الله ابراهيم (2004م)، ونصر حامد أبو زيد (2005م). يتم تجديد تشكيل لجنة الاختيار للجائزة كل سنة، حيث سبق أن شارك فيها ضمن آخرين: هشام شرابي، وبرهان غليون، وفريدة النقاش، وسحر خليفة. أما هذا العام فقد تكونت من الشاعر قاسم حداد، والمحامية الناشطة في مجال حقوق الانسان أسمى خضر، وأستاذة الأدب العربي والدراسات الاسلامية البروفيسورة أنجليكا نويفيرت، ورئيس جمعية حقوق الانسان في سورية الدكتور أحمد فائز الفواز.
ألا هنيئاً لشعبنا بفاطمته، فهي مما يوجب الحمد، وأقله أن نقوم باعادة نشر ما خطه فكرها الثاقب عبر بنانها الثابت: (حصادنا خلال عشرين عاماً)، و(المرأة العربية والتغيير الاجتماعي)، و(حول قضايا الأحوال الشخصية)، و(حول قضايا المرأة العاملة السودانية)، و(آن أوان التغيير ولكن)، و(صرخة داوية لتهز ضمير العالم)، هذا بجانب العدد الضخم من المقالات والأوراق، بالاضافة إلى سيرتها الذاتية، ذلك في سفر واحد جامع يحفظ عهدها الذي به أبرت ويصون حرمة حبها الذي به شغفت. ولها كلمة من حديث العارفين: "هذا الجمال لمن يشاهده".

أول 2007م