الشيخ محمد عبده والمرأة



عقيل عيدان
2007 / 1 / 23

تعد أهم فتاوى الشيخ محمد عبده (1849-1905م) في المجال الاجتماعي ما هو متعلّق بقضية رفضه لتعدّد الزوجات والأسرة المسلمة وتربية البنت في عصره. ففي مقال له نشرته (الوقائع المصرية) بتاريخ 8/3/1881م يقول عبده في مسألة تعدّد الزوجات ما نصّه: ((قد أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة، إن عَلِمَ من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلاّ فلا يجوز الاقتران بغير واحدة)). وبعد استعراض شواهد من الآيات والأحاديث النبوية المؤدية إلى استحالة العدل بين الزوجات، فضلاً عن مساوئ تعدّد الزوجات الاجتماعية المختلفة، معتمداً على الاجتهاد في تأويل الآية المتعلّقة بتعدّد الزوجات وشرط العدل في ذلك، قال عبده: ((فاللازم عليهم حينئذ إما الاقتصار على واحدة إذا لم يقدروا على العدل كما هو مشاهد، عملاً بالواجب عليهم بنص قوله تعالى:{فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة}، وأما آية {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} فهي مقيدة بآية فإن خفتم، وإما أن يتبصروا قبل طلب التعدّد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعاً من العدل )).
إن الفهم المتنوّر للآيات القرآنية ولأحكام الإسلام بخصوص حقوق المرأة ، يصل ذروته هنا. فهو يرى أن ما جاء في القرآن في آية فإن خفتم هو مجرّد إباحة لعادة موجودة سابقاً على شرط العدل. وليس في ذلك ترغيب في التعدّد، بل تبغيض فيه. ثم يفتي محمد عبده بجواز إبطال هذه العادة للمسوّغات الآتية:
• لأن شرط التعدّد هو التحقّق من العدل، وهذا الشرط مفقود حتماً.
• قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدّد ، وحرمانهن من حقوقهن في النفقة والراحة. ولهذا يجوز للحاكم وللقائم على الشرع أن يمنع التعدّد دفعاً للفساد الغالب.
• قد ظهر أن منشأ الفساد والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم .
بالإضافة إلى هذه الفتوى "الجسورة" – في حينه – لم يكف عبده عن المطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل في حق طلب الطلاق من جهة، وفي وقف نزيف حق الطلاق العشوائي الممنوح للرجل بالمطالبة بتقنين اشتراط ألاّ يقع طلاق من دون حكم القاضي. وفي دفاعه هذا عن حقوق المرأة يجد عبده سوابق فقهية يستند إليها تعزيزاً لموقفه في كل من المذهب المالكي ومذهب أبي حنيفة؛ على أساس أن ثمة إجماعاً على جواز أن تشترط المرأة في عقد الزواج النص على حقّها في تطليق نفسها متى شاءت. إن المبدأ الذي يعلنه عبده في قوة ووضوح هو أنه: لا طلاق إلاّ أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين على الأقل، وذلك بعد الاستمهال أسبوعاً للتفكير، وبعد أن يقدِّم الحَكَمان – واحدة من أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة – تقريراً للقاضي باستحالة العِشرة وفشلهما في التوفيق بين الزوجين.
ويستند عبده في موقفه المتشدّد من الطلاق لمصادر من التراث الإسلامي عدّة منها على سبيل المثال حواشي ابن عابدين الذي قال: ((إن الأصل في الطلاق الحظر، بمعنى أنه محظور إلاّ لعارض يبيحه، فإذا كان بلا سبب، يكون حمقاً وسفاهة رأي، ومجرد كفر بالنعمة، وإيذاء للمرأة وأهلها وأولادها)).
إلاّ أن المصدر الأساس في كل هذه الاجتهادات والفتاوى كان اعتبارات "المصلحة"و"المقاصد"، وكأنه يريد أن يقول إن تحليل المحرمات وإبطال الواجبات غير جائزين، لكن تحريم المباحات أو إيجابها جائز طبقاً للمصلحة، وهو ما ينطبق على فتوى تحريمه للزواج المتعدّد. ولا شك أن مثل هذه الأحكام وتبريراتها هي على خلاف الموروث الفقهي.
كما دعا إلى تعلّم المرأة وتنمية طاقاتها الذهنية لمواجهة مسؤوليتها في تربية الأبناء ورعاية مصالح الأسرة عموماً، وكان عبده في كل هذه المواضيع مؤكداً قاعدة كبرى هامة للغاية وهي أن ((الإسلام لا يفرّق بين الرجل والمرأة من حيث الذّات والاحساس والشعور والعقل، فيمكن بالتالي وبناء عليه أن تتحقّق المساواة الكاملة بين الجنسين)).
لقد اختار عبده لنفسه الجانب الايجابي لمشكلة المرأة بأبعادها المختلفة؛ مما سمح له باختيار الآيات المؤيدة لموقفه من مثل قوله تعالى: { ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف }(البقرة : 228)؛ أو قوله تعالى: { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات }(الأحزاب : 35)، ذلك أن هذه الآيات وغيرها تُشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية كما يقول عبده.
وفي مجال تعليم المرأة وقف عبده ضد ترك البنات يفترسهنّ الجهل. فالمرأة الجاهلة لا تربي ابنها، بل توقعه في الموبقات ((ولا خلاص من هذه الورطة الشنيعة إلاّ بالتربية الكاملة الشاملة للأبناء والبنات)).
لقد كان موضوع تربية البنات مشكلة متداولة، نراها اليوم بنظرة هادئة، أما في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فكانت غرضاً لانفعالات، وتحليلات مرتبكة. لقد أقام عبده موقفه على أسس ترى التربية مكوّناً للإنسان الحقيقي، فهي تُعلّم الصدق والأمانة، وتعزّز محبة الإنسان لنفسه ومن ثم لغيره. من هنا فإنه جابه مشكلة تعليم البنات وفق منظور إنساني.
ومن آراءه الهامة في هذا المجال أيضاً رأيه في حجاب المرأة، إذ يخرّج موقفه استناداً إلى النصوص الشرعية. فيعلن أن الشريعة لم تنصّ على الحجاب الذي عرف عند المسلمين في عصره، معتبراً أن هذه العادة عرضت من مخالطة الأمم الأخرى، فهو هنا يشذّب ما عَلِقَ في الإسلام ويبيّن ما دخل على العادات العربية. لأن الحجاب من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين من ((العادات الضارة التي تمكّنت في الناس باسم الدين والدين براء منها)).
لقد كانت آراء عبده هذه في بعضها صدىً لآراء أحد أعلام التنوير آنذاك؛ أعني رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م)، ولاسيما في موقفه من المرأة. فقد ذهب الطهطاوي إلى أنه ليس هناك نقص طبيعي في تكوين المرأة عن الرجل وأن ضعف الصفات البدنية لدى المرأة لا يعني ضعفاً في القدرات العقلية. كما ذهب إلى تأييد تعليم المرأة. ووقف الطهطاوي مع حجاب المرأة لا حجبها في البيت، ودعا إلى إقامة الحياة الزوجية على أساس الحب المتبادل من الزوجين، وشعورهما بمسئولية الحياة الزوجية. كما رأى أيضاً أن تعدّد الزوجات مكروه لكنه مباح بشرط العدل.
رغم اختلاف منهج الطهطاوي وعبده في تناول قضية المرأة، فإن ما يجمع بينهما على صعيد واحد هو اطلاعهما على التراث الإسلامي وعلى الحضارة الغربية معاً. وهو ما يخوّل لي تفسير مواقفهما بفقدان عنصر البداهة لديهما في ما يخصّ المسلّمات التي كان يؤمن بها معاصروهما. فالمرجعية الفقهية في ذهنهما لم تعد الوحيدة بل أضحت تزاحمها مرجعية جديدة ذات أصول ليبرالية بالأساس. وهو ما جعل البُعد الديني يتداخل مع البُعد النفعي المباشر، بل جعل البُعد الميتافيزيقي يتقلّص لفائدة البُعد الدنيوي. وأحوجهما ذلك إلى مبرّرات جديدة كل الجدة بالنسبة إلى عصرهما وبيئتهما التي مثّلت بداية القطيعة الفعلية مع النمط السائد في نظرة المسلم إلى المرأة وبالتالي نظرته إلى نفسه.
ولئن عثرنا عند عبده على مواقف وآراء تتعلّق بالمواضيع التي ستصبح معهودة في أدبيات هذه المسألة مثل مواضيع تعدّد الزوجات والطلاق والسفور والحجاب والمساواة بين الرجل والمرأة، فإن تفكيره كان منصبّاً بالدرجة الأولى على تربية المرأة. ولم يكن هذا الإلحاح على ضرورة تعليم النساء والاستدلال عليه بشتى الحجج النقلية والعقلية أمراً أملته اعتبارات عاطفية أو ذاتية، وإنما هو من متطلبات الظروف المستجدة المتولّدة عن الاتصال بالغرب الحديث آنذاك، إذ أضحى تعليم الفتاة هو الذي من شأنه أن يفجّر بنية المجتمع التقليدية ويؤدي إلى تغيّر سلّم القيم الموروث حتى يتمكّن المسلمون من مجاراة الغرب في تحضّره وتمدّنه.