![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
إسلام حافظ
!--a>
2025 / 5 / 29
في زنازين السجون المصرية، تقبع مئات النساء تحت وطأة نظامٍ عقابي لا يرحم، يتعامل مع الجسد الأنثوي بوصفه عبئًا قابلًا للانتهاك، لا كيانًا يستحق الحماية والرعاية. الحديث عن حقوق النساء في السجون المصرية ليس ترفًا حقوقيًا، بل ضرورة إنسانية ملحّة، في ظل شهادات وتقارير موثقة تؤكد أن الانتهاكات بحق السجينات ليست مجرد استثناءات، بل سياسة ممنهجة تُمارس بأوجه متعددة، تبدأ من الإهمال الصحي ولا تنتهي عند حرمانهن من أدق احتياجاتهن الجسدية الأساسية، وعلى رأسها مستلزمات الدورة الشهرية.
تتفاوت تقديرات عدد النساء في السجون المصرية، لكن وفقًا لتقارير منظمات مثل "نظرة للدراسات النسوية" و"المفوضية المصرية للحقوق والحريات"، فإن عدد السجينات السياسيات وحدهن يتراوح ما بين 200 إلى 300 معتقلة في السنوات الأخيرة، فضلًا عن الآلاف من السجينات الجنائيات اللاتي لا تحظى قضاياهن بالاهتمام الإعلامي أو الحقوقي الكافي، رغم تعرضهن لانتهاكات مماثلة، إن لم تكن أشد.
في المادة 30 من الدستور المصري، يُنص على أن "الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها"، وهو مبدأ دستوري تُنتهك حقيقته يوميًا داخل جدران السجون. وتنص أيضًا المادة 36 من قانون تنظيم السجون المصري رقم 396 لسنة 1956 على أن "إذا تبين لطبيب السجن أن المسجون مصاب بمرض يهدد حياته بالخطر أو يعجزه عجزًا كليًا، يُعرض أمره على مدير القسم الطبي للسجون للنظر في الإفراج عنه"، كما تنص المادة 33 من القانون نفسه على أحقية السجناء في الرعاية الصحية والنظافة الشخصية. لكن في الواقع، تكشف تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة أن هذه النصوص لا تُطبَّق بشكل فعلي، خصوصًا على النساء، ما يجعلها مجرد عبارات شكلية بلا أثر.
أحد أخطر مظاهر الإهمال الصحي في السجون هو ما يخص الدورة الشهرية لدى السجينات، وهي قضية نادرًا ما تُسلَّط عليها الأضواء. فالفوط الصحية، التي تُعد من أبسط مستلزمات الرعاية، لا تُوفرها إدارة السجون بشكل منتظم، وغالبًا ما تُجبر النساء على استخدام قطع قماش بالية أو مناديل ورقية رديئة الجودة، مما يعرضهن لالتهابات مهبلية وجلدية مزمنة، إضافة إلى الآلام النفسية المصاحبة لهذا الوضع المهين. شهادات عديدة وثقتها منظمات مثل "مركز النديم" و"المفوضية المصرية للحقوق والحريات" أكدت أن السجينات يُحرمن أحيانًا من الحصول على فوطة صحية في أوج نزيف الدورة الشهرية، وتُرفض طلباتهن من قِبل بعض الحارسات، إما بدافع الإهمال أو كنوع من العقاب المتعمد.
وفقًا لتقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش"، فإن كثيرًا من السجينات يُمنعن من تلقي الرعاية الصحية الملائمة، حيث وثقت المنظمة حالات لسجينات توفين بسبب مضاعفات صحية كان من الممكن علاجها بسهولة لو توفر الحد الأدنى من الرعاية. كما سجل مركز النديم للضحايا حالات متكررة لسجينات تعرضن للإجهاض أو أزمات صحية حادة دون أن يُنقلن للمستشفيات، وبدون إشراف طبي متخصص.
الرعاية الطبية في السجون المصرية تخضع في كثير من الأحيان لأهواء الضباط والمسؤولين، وليس لاحتياجات السجينات. لا توجد مواعيد منتظمة للكشف الطبي، ولا تُجرى فحوصات دورية، ويُمنع أحيانًا دخول الأدوية الأساسية، حتى تلك التي تُرسل من الأهل. أما حالات الحمل والولادة في السجون، فتمثل قصة مأساوية أخرى، حيث وُثقت ولادات تمت داخل الزنازين، دون تجهيز طبي، في ظروف غير آدمية، ما يشكل خرقًا فاضحًا ليس فقط للقانون المحلي، بل للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر، وعلى رأسها "قواعد بانكوك" للأمم المتحدة الخاصة بمعاملة السجينات، و"قواعد نيلسون مانديلا" الخاصة بالحد الأدنى لمعاملة السجناء.
تنص القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا) على ضرورة توفير "مستلزمات النظافة الشخصية للسجينات، بما في ذلك منتجات النظافة أثناء الحيض، مجانًا وبطريقة تحفظ كرامتهن"، وهو ما لا تلتزم به مصر عمليًا، رغم أنها صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW). كما تشير اتفاقية مناهضة التعذيب إلى أن "الإهمال المتعمد الذي يؤدي إلى المعاناة الجسدية أو النفسية الشديدة" يُعد شكلًا من أشكال التعذيب، ما يجعل بعض ممارسات السجون المصرية بحق النساء، من حيث الإهمال الطبي المتعمد والحرمان من مستلزمات النظافة، تدخل تحت هذا التصنيف القانوني.
ومن أبرز الحالات التي أثارت الرأي العام، كانت قضية وفاة الشابة "مريم سالم" في ديسمبر 2019 داخل سجن القناطر للنساء، بسبب الإهمال الطبي وسوء الرعاية الصحية. قُبض على مريم وعمرها 19 عامًا، وتوفيت داخل السجن بعد أن تدهورت حالتها الصحية دون أي تدخل طبي جاد، في واقعة تلخص المأساة التي تعيشها السجينات، وتكشف حجم الاستهتار بأرواحهن.
بالإضافة إلى ما سبق، تعاني السجينات من صعوبة التواصل مع العالم الخارجي، إذ يُمنعن من الاتصال بأسرهن في كثير من الأحيان، وتُفرض قيود تعسفية على الزيارات، ما يزيد من حدة العزلة النفسية والاجتماعية، ويؤثر سلبًا على صحتهن النفسية، في ظل غياب أي دعم أو رعاية متخصصة في مجال الصحة النفسية.
إن ما يحدث في السجون المصرية بحق النساء لا يمكن اختزاله في مصطلح "إهمال"، بل هو منهجية متكاملة من الإذلال والتنكيل، تهدف إلى كسر النساء نفسيًا وجسديًا. إن أي حديث عن تمكين المرأة أو الدفاع عن حقوق الإنسان لا معنى له إذا لم يبدأ من خلف القضبان، من زنازين القناطر وغيرها من السجون، حيث يُدفن صوت النساء تحت طبقات من الصمت والتجاهل.
المجتمع المدني مطالب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بفتح هذا الملف المسكوت عنه، والمطالبة العلنية بتوفير مستلزمات النظافة للسجينات مجانًا، والرعاية الصحية الكاملة، والحق في الخصوصية والرعاية النفسية، وإطلاق سراح السجينات السياسيات فورًا، باعتبار أن سجنهن قائم، في كثير من الحالات، على خلفية تعبير سلمي عن الرأي.
وحتى يأتي ذلك اليوم، ستظل دماء النساء ونزيف أجسادهن في الزنازين وصمة عار على جبين نظام يدّعي الالتزام بالدستور والقانون، بينما يدفن الإنسانية تحت ثقل الحديد والصمت.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك