الحجاب والتمييز الطبقي: كشف العلاقة بين الستر والعبودية في التاريخ الإسلامي



إياد هديش
2025 / 6 / 3

مقدمة: الحجاب - مفهوم لغوي وتطور اجتماعي

عند تحليل النصوص القرآنية، لا نجد أمرًا صريحًا ومباشرًا بـ "الحجاب" بمعناه الاصطلاحي الشائع اليوم كغطاء للرأس أو لباس محدد. كلمة "حجاب" في القرآن تُشير إلى الستر أو الحاجز بشكل عام، كما في سورة الأحزاب (الآية 53): ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾، حيث يشير "الحجاب" هنا إلى حاجز مادي، يُفهم غالبًا على أنه ستار أو جدار يفصل بين الرجال والنساء في سياق محدد (كبيت النبي.)

الآيات الأخرى التي يُستدل بها على "الحجاب"، مثل آيتي الجلباب والخمار، يمكن قراءتها كتوجيهات اجتماعية تعكس أعرافًا وضرورات مجتمعية محددة في زمن نزول النص. الجلباب كان لباسًا موجودًا قبل الإسلام، والأمر بإدنائه قد يكون لتمييز النساء الحرائر وحمايتهن من التحرش. أما الخمار، فكان غطاء للرأس بالفعل، والتوجيه القرآني كان لتعديل طريقة ارتدائه لتغطية الصدر.

هذه التوجيهات لا تُشكل أمرًا إلهيًا بزي معين، بل هي توصيات لتنظيم اللباس بما يتوافق مع معايير "الحشمة" و"التمييز الاجتماعي" السائد في ذلك السياق التاريخي. وبالتالي، فإن فكرة "الحجاب" كفرض ديني شامل وملزم لجميع النساء في كل زمان ومكان، هي نتاج لتفسيرات فقهية وتطورات ثقافية لاحقة، وليست نصًا قرآنيًا واضحًا.


سورة الأحزاب: الجلباب كعلامة تمييز اجتماعي

عند تحليل الآية 59 من سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فإننا نتعامل معها كوثيقة تعكس سياقها الاجتماعي والثقافي، بعيدًا عن أي افتراضات ميتافيزيقية.


الخطاب الموجه والطابع الاجتماعي

الآية موجهة بشكل خاص إلى فئة معينة من النساء: "أزواج النبي وبناته" و"نساء المؤمنين". هذا التخصيص يشير إلى أن الأمر ليس عامًا لجميع النساء في كل مكان وزمان، بل يتعلق بجماعة محددة في سياق مجتمعي خاص (كـمجتمع المدينة المنورة في فترة معينة). النبي، بصفته شخصية اجتماعية وسياسية، كان يقوم بدور المنظم الذي يصدر توجيهات لأتباعه بهدف تنظيم المجتمع والحفاظ على النظام والأخلاق حسب رؤيته. هذه التوجيهات تُفسر هنا كإرشادات اجتماعية وليست أوامر إلهية كونية.


الجلباب والهدف الوظيفي

الجلباب كان لباسًا معروفًا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، يُفهم على أنه ثوب واسع فضفاض يُلبس فوق الثياب الأخرى. "يُدنين عليهن" تعني "يسدلن أو يغطين به أنفسهن" بطريقة تشير إلى تغطية أوسع للجسم. هذا التوجيه لا يتعلق بـ"الحجاب" كفريضة دينية سرمدية بالضرورة، بل بتعديل أو ترسيخ عرف اجتماعي. الغرض ليس تعبديًا بقدر ما هو وظيفي واجتماعي.

من المرجح أن هذا الأمر كان يهدف إلى:

- علامة تمييز اجتماعي: في مجتمع كانت فيه النساء يتنقلن للعمل أو قضاء الحاجات، كان هناك تمييز بين "الحرائر" (ذوات المكانة الاجتماعية) و"الإماء" (الجواري). الإماء قد لا يُلزمن بنفس درجة التغطية أو قد يُعرفن بلباسهن الأقل حشمة. هذا الأمر قد يكون محاولة لتمييز نساء المؤمنين، وخاصة نساء بيت النبي، عن غيرهن.
- مظهر من مظاهر الاحترام: قد تكون التغطية بالجلباب في ذلك السياق دلالة على الحشمة والاحترام، وهي قيم اجتماعية مرغوبة في أي مجتمع.


الغرض الصريح: "ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ"

هذه الجملة هي المفتاح الحقيقي لفهم الآية من منظور علماني. الآية تقدم علة واضحة ومباشرة لهذا التوجيه: "لكي يُعرفن فلا يتعرضن للأذى".

- "يُعرفنُ": قصد بـ"يُعرفن" هنا التمييز. أي يُعرفن كنساء حرائر محترمات، أو كنساء مؤمنات ملتزمات بمعايير المجتمع. في مجتمع قديم كان فيه الاعتداء على النساء شائعًا، وخاصة الإماء، فإن تمييز النساء الحرائر المؤمنات بلباس معين قد يجنبهن المضايقات التي قد يتعرضن لها إذا ظُن أنهن إماء أو نساء لا يلتزمن بمعايير المجتمع. ودليل ذلك يتضح في رواية أنس بن مالك: "كُنَّ إِمَاءُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْرِبُ ثَدِيُهُنَّ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا" أو "تَهْتَزُّ ثَدِيُهُنَّ".
- "فَلَا يُؤْذَيْنَ": هذا يؤكد أن الغرض الأساسي هو الحماية الاجتماعية والحد من المضايقات. الأذى هنا يُفهم على أنه تحرش لفظي، أو جسدي، أو نظرات غير مرغوبة، أو حتى الاعتداء الجسدي. وقد فَرَّقَ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ والجمهورُ بين عورةِ الحُرَّةِ والأمةِ، فجعلوا عورةَ الأمةِ ما بينَ السرةِ والركبةِ كالرجلِ، ويُستدل على ذلك بما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث: "وإذا زوج أحدكم خادمه أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة"، وما رواه أبو داود أيضًا بلفظ: "إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها". هذه التفسيرات تؤكد البعد الطبقي في تحديد معايير الستر.

هذه الآية تعكس ظاهرة اجتماعية عالمية وليست حكرًا على الثقافة الإسلامية: ففي العديد من المجتمعات، ترتبط طريقة لباس المرأة بمكانتها الاجتماعية، وبمدى تعرضها للمضايقات. يمكن تفسير هذا التوجيه كحل عملي لمشكلة اجتماعية قائمة في ذلك الوقت والمكان، حيث كانت هناك حاجة لتوفير نوع من "الحماية البصرية "للنساء. الأمر أشبه بقانون تنظيم زي معين لغرض أمني أو اجتماعي.



سورة النور: الخمار وتنظيم الزينة

تُعتبر الآية 31 من سورة النور نصًا محوريًا في الخطاب الديني حول مسألة "الحجاب" و "الستر" للمرأة. من منظور علماني، يمكن مقاربة هذا النص كوثيقة تعكس قيمًا اجتماعية وثقافية سائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة.

الآية 31 من سورة النور: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾


توجيه السلوك وتنظيم الرغبات

الخطاب موجه بوضوح إلى "المؤمنات". هذا يشير إلى أن هذه التوجيهات هي جزء من تنظيم سلوكيات جماعة دينية معينة، وليست دعوة عالمية لأخلاقيات إنسانية عامة.

- "يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ": توجيه سلوكي يهدف إلى تنظيم التفاعلات البصرية بين الجنسين، وتقليل الإثارة البصرية في المجتمع، وهي فكرة موجودة في العديد من الثقافات التي تفرض قيودًا على التفاعل بين الجنسين.
- "وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ": تعبير عن دعوة إلى العفة الجنسية، والتي تُعتبر قيمة اجتماعية تساهم في استقرار الأسرة والمجتمع.

"الخمار": عرف جاهلي وإعادة توجيه اجتماعية

النص يشير إلى أن "الخمار" كان جزءًا من لباس النساء في فترة ما قبل الإسلام، يُستخدم لتغطية الرأس. لكن نساء العرب كن يسدلنه إلى الخلف، تاركات الرقبة والصدر مكشوفين. يمكن فهم التوجيه اللاحق "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ" كتعديل اجتماعي لعادة قائمة، وليس فرضًا لزي جديد كليًا. هذا التعديل يهدف إلى تغطية منطقة الرقبة والصدر بشكل كامل، بما يخفي الزينة. من هذا المنظور، لا يعد هذا الأمر حكمًا إلهيًا بقدر ما هو تدخل لتنظيم اللباس العام في سياق اجتماعي معين، سعيًا لفرض نوع من "الاحتشام" الذي كان يتوافق مع قيم المجتمع آنذاك.

التمييز في الخطاب: "للمؤمنات" وليس جميع النساء

الآية تخاطب "الْمُؤْمِنَاتِ" بشكل صريح. هذا التخصيص يثير تساؤلات مهمة:
- تشريع اجتماعي محدد: هذا يعني أن "الحجاب": بهذا الفهم، هو ممارسة اجتماعية داخل جماعة دينية معينة، وليس قاعدة أخلاقية عالمية تنطبق على جميع النساء بغض النظر عن معتقداتهن.
- تمييز هوياتي: في المجتمعات المتنوعة، يصبح "الحجاب" علامة فارقة للهوية الدينية للمرأة المسلمة، ويميزها عن غير المسلمات.


تمييز "الحرة" عن "الأمة" في سياق "الحجاب": تساؤلات حول العدالة الاجتماعية

العديد من التفسيرات التاريخية تشير إلى أن الأحكام الواردة في هذه الآية كانت موجهة أساسًا للنساء الحرائر المؤمنات، وليس للإماء (الجواري). كانت الأمة تُعامَل بوضعية اجتماعية مختلفة، ولم تكن مطالبة بنفس درجة "الستر" المطلوبة من الحرة. هذا التمييز، الذي غالبًا ما يبرر "بحماية الحرة" أو "ظروف العمل"، يثير تساؤلات نقدية عميقة من منظور معاصر:
- الحماية الشاملة أم التمييز الطبقي؟ إذا كان الهدف من "الحجاب" هو حماية النساء من الأذى والتحرش، فإن استثناء الإماء من هذه "الحماية" يكشف عن تناقض صارخ. هل كانت "الحماية" مقتصرة على فئة اجتماعية معينة، أم أن الأمر كان يتعلق بوضع طبقي يعكس نظرة المجتمع للمرأة كملكية؟
- الوعي السائد والتشريع: الإشارة إلى أن هذا التمييز "نتيجة لوعي كان سائدًا في تلك الحقبة ضد جزء من النساء" تضع علامات استفهام حول طبيعة "الأحكام" ومدى تأثرها بالظروف الاجتماعية.
- المساواة في الفكر الحديث: من منظور علماني يؤكد على المساواة بين جميع البشر، تُصبح هذه الأحكام التي تميز بين فئات النساء بناءً على وضعهن الاجتماعي دليلًا على أن النصوص التاريخية غالبًا ما تكون متأثرة بظروف عصرها، ولا تعكس بالضرورة قيمًا عالمية أو خالدة.


"الظهور على من ملكت أيمانهم": تحديات الفهم المعاصر

الآية تستثني "مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ" (العبيد والإماء المملوكين) من قائمة من تُبدَى الزينة أمامهم. هذا الاستثناء كان مبنيًا على اعتبارات سياقية:
- التراتبية الاجتماعية المفروضة: كان العبيد جزءًا من "البيت" ويُعاملون ضمن "الأسرة" في بعض الجوانب.
- افتراض انعدام الشهوة (غير المنطقي): الافتراض بأن "العبيد ليس لديهم شهوات كبقية الرجال" هو افتراض غير منطقي وغير واقعي. الشهوة أمر فطري في البشر بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو القانوني. هذا يبرز كيف أن "التشريعات" قد تتجاهل الواقع البيولوجي البشري لصالح أعراف اجتماعية. فقد "سُئِلَ مَالِكٌ: أَتُلْقِي الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا بَيْنَ يَدَيِ الْخَصِيِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا. وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَا."
- انعدام الموضوع حاليًا: مع زوال نظام الرق عالميًا، يصبح هذا الاستثناء في الآية بلا موضوع عمليًا في واقعنا المعاصر، مما يعزز فكرة أن العديد من هذه "الأحكام" كانت مرتبطة بسياق تاريخي محدد.

تضييق الخناق على الإغراء: "وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ"

هذا التوجيه الدقيق يمنع النساء من القيام بحركات قد تلفت الانتباه إلى "الزينة المخفية" (مثل الخلخال). يعكس هذا محاولة للتحكم ليس فقط في المظهر، بل في الحركة الجسدية للمرأة، لمنع أي إشارة قد تُفسر على أنها دعوة أو إغراء، مما يشير إلى مستوى عالٍ من القلق الاجتماعي بشأن "الفتنة" الجنسية ودور المرأة فيها.




الخلاصة: الحجاب كظاهرة اجتماعية طبقية

عند تحليل آيات الحجاب في سورتي الأحزاب والنور تتضح لنا عدة نقاط أساسية:

- ليست أوامر إلهية كونية: بل هي تعليمات تنظيمية صدرت عن قائد اجتماعي (النبي) لجماعته، وتعكس محاولة لتنظيم العلاقات بين الجنسين والتحكم في الرغبة الجنسية داخل مجتمع معين في زمن معين.

- التركيز على التحكم في "الفتنة": الهدف الأساسي لهذه التوجيهات هو تقليل "الفتنة" الجنسية والتحكم في التفاعلات بين الرجال والنساء، مما يعكس قلقًا اجتماعيًا من الفوضى الجنسية.

- تأثير السياق الاجتماعي والتاريخي: الآيات تتأثر بشكل كبير بالأعراف السائدة حول اللباس، والتمييز الطبقي الواضح بين الحرائر والإماء، ونظام العبودية. هذا يفسر وجود استثناءات معينة (مثل "ما ملكت أيمانهم") التي لا تبدو منطقية من منظور المساواة الإنسانية الحديثة.

- تحديد أدوار الجنسين والسيطرة الأبوية: تظهر الآيات محاولة لفرض أدوار وسلوكيات محددة على النساء، تهدف إلى الحفاظ على نظام اجتماعي ذكوري، حيث يُنظر إلى جسد المرأة وزينتها كـ"مثير للفتنة" يجب التحكم فيه.



باختصار، تُصبح آيات الحجاب وثيقة تعكس تحديات وتصورات مجتمع قديم، بدلاً من كونها أمرًا إلهيًا أبديًا. إن هذا الفهم النقدي يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول طبيعة النصوص التاريخية ومدى تطبيقها في عوالمنا المعاصرة التي تتبنى قيمًا مختلفة كالمساواة والحرية الفردية.