لا تأكلوا -صديقها-!



ناضل حسنين
2025 / 6 / 5

كانت في الخامسة من عمرها ولم تكن تجيد التحدث بالعربية بعد، وقد عادت مع والديها من اغتراب طال امده، فكانت تستعيض عن الكلام بالابتسام وبالإشارات لمن حولها او ان تستعين بوالدها حين يستوجب الامر. لهذا نجحت خلافا لغيرها من أطفال البيت الكبير، في إيجاد لغة مشتركة مع الضيف الجديد الذي أحضروه عصر ذات يوم، وتحول الى الشغل الشاغل لكافة صغار البيت، انه خروف العيد.
كانت الوحيدة التي تمكنت من ربط أواصر الصداقة مع الخروف المذعور الذي كان يملأ البيت ثغاءً بلا انقطاع، فكانت تلملم له الأعشاب من ساحة البيت وتصنع منها رزمة ثم تقف على مسافة آمنة منه حسب طول الحبل، وتمد يدها نحو فمه بكثير من الحذر خوفا من اسنانه، الى ان اعتاد الضيف المذعور وجودها وهدوءها وصار يأمن لها فيتناول العشب من يدها ويمنحها سعادة لا توصف بهذه "الصداقة" التي لا تحتاج للغة صعبة المفردات.
وكانت كلما تناول الخروف رزمة العشب من يدها، تسارع الى جمع رزمة بدلها. ومع مرور الوقت لم تعد تخشى اسنانه، فكانت تقصر المسافة منه أكثر فأكثر، حتى استجمعت شجاعتها وداعبت اذنيه، فراق لها ذلك واحست بهدوء الصديق الجديد، الى ان تحولت علاقتها به الى عناية متواصلة تقدم له العشب والماء سواء كان جائعا ام لا وسواء كان عطشا ام لا...وصارت تلف ذراعيها حول عنقه وتقبله من اعلى رأسه، وصارت تنهر الأولاد الذين يحاولون ازعاجه او شد إليته!
وما لبثت ان صارت تفيق في ساعة مبكرة عند الصباح وتنزل الى ساحة البيت مسرعة، قبل الجميع، الى الخروف لإطعامه وإسعاده، بينما كان يبدو هو راضيا وقد هدأ روعه واختفى قلقه من المكان الجديد واعتاد وجه الطفلة التي بقيت الوحيدة التي تعتني به بعد أن مل بقية الأطفال منه وانصرفوا عنه بعد يوم او يومين.
هكذا أمضت أسبوعا من العناية بصديقها الخروف حتى أنها كانت كلما خرجت مع والديها الى مكان ما، تلح عليهما بالعودة سريعًا الى البيت كي تكون بجوار الخروف الذي صار جزءاً من يومياتها بعد ان اطمأن هو بدوره لها وتيقن من انها مصدر طعامه وشرابه.
ذات صباح، نهضت الطفلة في ساعة مبكرة كعادتها، ونزلت الى ساحة البيت، فرأت في ركن آخر من ساحة المنزل تجمهرًا غير عادي في مثل هذا الوقت من ساعات الصباح...ولاحظت كذلك حركة نشطة للأطفال وضوضاء من أحاديث الكبار بينما يقف الجميع في شبه حلقة يتابعون أمرًا يستحوذ على اهتمامهم.
وبدلا من ان تتجه الى صديقها الخروف، سارت نحو الحشد المتجمهر لترى ما الذي يستقطب اهتمام الجميع. اقتربت ودست رأسها من بين الكبار، فرأت دماء تغطي الأرض...رفعت عينيها لترى خروفها معلقا من قدميه ورأسه يترنح على ما تبقى من عنقه المنحور وهو يقطر دما، وكان الجزار قد سلخ جلده حتى النصف فظهر اللحم الأبيض والاحمر من بطنه...وقفت مصدومة من المشهد لا تقوى على شيء.. انسحبت الى الخلف بذهول ثم استدارت وتوجهت نحو تلك الشجرة رافضة التفكير بأن هذا كان خروفها، ولما لم تجده بانتظارها تحت الشجرة أيقنت ان ذاك الذي يعبث به سكين الجزار هو خروفها.
جلست على حافة العتبة بعيدا عن الجميع، تنظر تارة الى التجمهر وتارة الى ظل الشجرة، حيث بقيت فقط طنجرة الماء التي كان يشرب منها الخروف. جلست صامتة بعض الوقت، ثم صعدت الى البيت وأغلقت على نفسها الغرفة لساعات دون ان يشعر بها أحد.
منذ ذلك اليوم والطفلة التي أصبحت اليوم في الثلاثينات من عمرها، ترفض تناول أي نوع من أنواع اللحوم. لقد أصبحت نباتية تشعر بالقشعريرة من عيد الأضحى..!