صوت العقل ام الموروث الديني؟



فؤاد عادل
2025 / 6 / 9

دخلت بنقاش حاد قبل أيام مع أحد الأصدقاء... بدأ الحديث هادئاً عندما ذكر لي انه اتخذ قراراً غريباً وغير مفهوم بالانتقال للسكن مع عائلته الى منطقة ريفية بعيدة عن المدينة بالرغم من أن عمله ومدارس اطفاله واقرباءه وجذوره داخل المدينة، ثم فاجأني أكثر عندما قال لي انه سيضطر للسفر كل يوم للمدينة للالتحاق بعمله ولإيصال ابنته الى كليتها التي هي في المدينة ايضاً.
المشكلة انه كان غاضباً بسبب رفض زوجته لهذا القرار ومندداً بموقف اطفاله المؤيد لأمهم في رفضها للانتقال، قائلا إن الدين والشرع يفرض على الزوجة ان تطيع زوجها في كل قراراته واختياراته (بغض النظر عن عدم منطقية تلك القرارات وما قد تسببه من ضرر للعائلة) وان عليها ان تتبعه أينما ذهب بدون أي اعتراض.
أعرف صديقي هذا منذ ما يقرب الثلاثين سنة، فقد نشأنا صغاراً في نفس المنطقة وترعرعنا سويةً وعرف كل منا طبع الآخر. لا املك تعريفاً محدداً لصفة (المتدين) ولا اعلم ان كان صديقي من ضمن فئة المتدينين ام لا، لكني اعرف انه ملتزم دينياً، مستقيم في سلوكه ويؤدي العبادات بانتظام ويواضب على ما يعتبره من الشعائر والمستحبات، بل ويحرص على ان يربي اطفاله تربية يعتبرها دينية بحتة من وجهة نظره، ويرفض الاخذ بنظر الاعتبار أي من التغييرات التي حدثت في المجتمع خلال العشرون سنة الماضية وصعوبة التعامل مع الأطفال من الأجيال الحالية والتأثير عليهم بوجود المؤثرات الأخرى والأكثر فاعلية من المدرسة والابوين (مثل وسائل التواصل والأفلام والانترنت).
بالعودة الى حديثي معه قبل ايام، بدأ النقاش يحتدّ عندما أدركت انه مؤمن بأن الحياة بين الزوجين يمكن ان تستمر بالاعتماد على الشرع فقط، وان لا مكان لأي منطقة وسطى في التعامل، فطالما ان الزوج هو واجب الطاعة على الزوجة، وطالما ان "حسن التبعّل" في نظره هو المعيار الوحيد في تعاطي الزوجة مع زوجها، فلن يكون هناك أي مجال للنقاش او التفاهم او تبادل الأفكار والخيارات.
القى عليّ محاضرة طويلة عن وجوب انقياد الزوجة لزوجها والانصياع لأوامره بدون أي اعتراض لأن الدين امرها بذلك، حتى لو كان أراد الزوج ان يسير بالعائلة الى الهاوية، فالطاعة أولا!
بعد ان انتهى، هجمت عليه هجوما ناعما بقائمة من الأسئلة...
هل تعتقد ان الحياة يمكن ان تستمر بما فهمناه من الدين والشرع فقط وان لا مكان لقيمٍ أخرى ربما تكون أيضا من الدين ولكن لا تراها؟
الا يجب علينا ان لا نهمل اجزاءاً اخرى مثل (وجادلهم بالتي هي أحسن)؟
الا تعتقد ان شريكة حياتك وام اطفالك ورفيقة دربك ونصفك الثاني ومن تحملت معك الظرف الصعب المزمن تستحق أن تنصت لها وان تتفهم رفضها؟
الا تستحق بنظرك فرصة منك أن تسمع منها؟
الم ترَ بعينك، بعد اكثر من عشرون سنة من الزواج، ان عماد العلاقة الزوجية الصحيحة هو التفاهم والتراحم والاتفاق والنقاش الهادئ، وليس "اطاعة الأوامر" فقط؟
الم تدرك لحد الآن ان الزوجة – الطبيعية على الأقل - تعطيك حين تعطيها، وتحترمك حين تحترمها، بل وتقدّسك حين تجعل لها منزلة في قلبك وامام اطفالك
في البداية، استقبل اسئلتي بتصلّب، قال لي بعناد طفولي مكشوف أنه يحب زوجته ويعيش معها طالما تعطيه ما يريد من طاعة واحترام وانصياع اعمى، وانه لن يتردد في "الضغط على زر" انهاء العلاقة حينما تفكر زوجته بمعارضته في أمر.
مع الوقت، لاحظت ان الحدّة في كلامه بدأت تخف تدريجياً، خصوصا عندما بدأت اناقشه في أصل قراره بالانتقال الى الريف وان لا مصلحة للعائلة بهذا القرار وانه يخاطر بحياته الزوجية وبسعادته وسعادة اطفاله برمّتها ان اصرّ على الانتقال، فضلا عن الضرر والجهد والمصاريف والخطورة بسبب السفر اليومي. طرحت عليه بدائل أخرى ورجوته ان يفكر قليلاً وان يترك عناده.
في النهاية، حاول ان يخفي اقتناعه بكلامي قائلاً ان قراره لم يكن محسوما أصلا واكد انه في حال ترك قرار الانتقال، فلن يكون بسبب نزوله عند رغبة زوجته وانما لتجربة بدائل أخرى.
حاولت إخفاء ابتسامتي وانا اراه يحاول التشبث بعناده، وشكرته على الاستماع لصوت العقل وتغليب مصلحة العائلة قبل كل شيء.