![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
محفوظ بجاوي
!--a>
2025 / 6 / 10
ليست مأساتنا أننا نعيش تحت أنظمة قمعية، ولا أننا نحمل جوازات بلا وزن في مطارات العالم، بل إن المأساة الكبرى هي أننا نحمل الخوف كهوية، ونُورِّثه كما نُورِّث أسماء العائلة. منذ الصغر، تُسكب الجرعة الأولى في أفواهنا، لا ترفع صوتك، لا تسأل، لا تجادل، لا تخرج عن الصف، لا تحلم بأكثر من لقمة وقليل من الستر. هكذا نبدأ الحياة كأننا خُلقنا لنتوارى، لا لنظهر، لنتبع، لا لنقود، لنتنفس بصمت، لا لنصرخ بالحق.
يكبر الطفل محمّلاً بنصائح تُشبه الأصفاد، محاطًا بجدران من التلقين، محرومًا من نعمة الشك. حين يفرح، يُقال له: "اكتم فرحتك، قد تُحسد"، وحين يبكي، يُقال له: "اصمت، الرجال لا يبكون"، وحين يحاول أن يفهم، يُرمى بكلمة قاطعة: "عيب!". هكذا لا يبقى فيه من الطفولة إلا جسدها، أما العقل فمربوط عند عتبة الطاعة، والخوف يُسقَى له كالماء، حتى ينمو فيه لا كشعور طارئ، بل كجزء من تركيبه النفسي.
وحين يدخل المدرسة، لا يجد فسحة للحرية، بل امتدادًا لما سبق. يتعلم أن يردد لا أن يبدع، أن يحفظ لا أن يسأل، أن يخاف من الخطأ أكثر من الجهل. المعلّم لا يُعلّم، بل يأمر، والكتب ليست نوافذ على العالم بل جدران تُطبع فيها الإجابات الجاهزة. وإذا ما تجرّأ على كسر هذا النمط، على أن يخطئ مرة ليُفكّر ألف مرة، يُعاقب لا لجهله بل لجرأته.
ويمضي العمر على هذا المنوال، الإعلام يُخيفه، الشارع يُراقبه، المجتمع يُدين كل اختلاف فيه. ينظر حوله فيجد الجموع وقد اختارت السلامة على الكرامة، والمسايرة على المواجهة، والصمت على الصراخ. يشيخُ قبل أوانه، يختنق في لحظة كان يجب أن يحلّق فيها. يتزوج خوفًا من العنوسة، لا حبًا، يعمل خوفًا من الجوع، لا شغفًا، ويعيش ليموت بلا أثر. يُقنع نفسه بأن الحذر فضيلة، وأن العقل هو أن تعرف متى تصمت، ومتى تنحني، ومتى تتخلى عن نفسك.
لكن ما لا يعرفه، أن الخوف لا يحفظ الكرامة، بل يسرقها. أنه لا يمنح الأمان، بل يسجن الروح في قوقعة من الانكسار البارد. وأن الأمم لا تنهض بالخائفين، بل بأولئك الذين إذا خافوا، قالوا… وإذا وُجِهوا، واجهوا… وإذا خُيّروا بين الحياة في الظل والموت تحت الشمس، اختاروا أن يُحرقهم النور.
لن نخطو خطوة إلى الأمام ما دمنا نخشى السؤال، ونرتعب من التغيير، ونسكت عن الخطأ لأننا اعتدنا عليه. لن نبني وطنًا من بشرٍ يفضّلون الطمأنينة الكاذبة على الحقيقة القاسية، ولا من مجتمعات تُكافئ الخنوع وتُجرّم الجرأة.
التحرر لا يبدأ بثورة في الشارع، بل بثورة في داخلنا. بأن نُعيد تعريف أنفسنا خارج قواميس الخوف. بأن نربّي أبناءنا لا ليُطيعوا، بل ليحلموا. بأن نكسر هذا القيد الذي يلبس ثوب الأدب، ويُخفي داخله تركة طويلة من الذلّ المبرّر.
الخوف، إن استوطن القلوب، لا يُبقي شيئًا فيها إلا الذبول. فلنطرده، لا بصرخة عشوائية، بل بفكرٍ واضح، بوعيٍ صارم، بشجاعة من يعرف أن الحياة الحقيقية لا تُمنح، بل تُنتزع.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|