![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
إياد هديش
!--a>
2025 / 6 / 19
في فضاء يُفترض أن يكون مفتوحًا وحرًا، يتحوّل العالم الرقمي في اليمن إلى امتداد أكثر ضراوة للقمع الاجتماعي، حيث تُستهدف النساء، وبالأخص الناشطات النسويات، بعنف لفظي وحملات تنمّر لا تهدأ، فقط لأنهن تجرأن على أن يكنّ ذواتهن. كلماتهن تُفسَّر كتهديد، صورهن تُعامل كإعلان حرب، وحريتهن تُصنَّف كخروج على الأعراف، لا لشيء سوى أنهن اخترن الوجود بصوتهن وصورتهن.
المرأة في مرمى قناصة الرقابة الذكورية
الفضاء الافتراضي، الذي يُفترض أن يكون مساحة للتعبير الآمن عن الرأي، تحوّل إلى حقل ألغام، تُطارد فيه المرأة إن خرجت عن النصوص الجاهزة التي خطّها العقل الذكوري منذ قرون. كل ما يخص المرأة يصبح موضوعًا عامًا مباحًا للجدل والهجوم: مظهرها، صوتها، صورتها، وحتى طريقة جلوسها أو ضحكتها، وكأنها كائن لا يمتلك الحق في التصرّف خارج قوالب الطاعة والاحتشام التي يفرضها مجتمع وصائي متغوّل.
المجتمع الذكوري في اليمن، مثل مجتمعات كثيرة أخرى، لا يهاجم المرأة لأنها تُخطئ، بل لأنه لا يحتمل أن تكون حرة. الحريّة، في نظر هذا المجتمع، ليست سوى مرادف للفجور عندما تخص النساء. وفي هذه العقلية، تصبح النسوية "رجسًا"، وتتحوّل المطالبة بالمساواة إلى "خيانة ثقافية" تستوجب العقاب المعنوي، وأحيانًا الجسدي.
العنف الرقمي: ذراع حديثة لقيم قديمة
ما يُمارَس على النساء في الفضاء الرقمي ليس خلافًا في الرأي، بل ممارسة ممنهجة للإرهاب الاجتماعي، يتستّر خلف أقنعة الدين، والأخلاق، والتقاليد. هذه الهجمات ليست انفجارات غاضبة عابرة، بل موجات مُنظَّمة تُستخدم فيها التقنيات الحديثة لإعادة إنتاج خطاب قديم يعادي الجسد الأنثوي، ويُصادر عقل المرأة وخياراتها.
يبدأ التنمر بالسخرية، ويتصاعد إلى التشهير، ويتحوّل أحيانًا إلى تهديد صريح. هذا السلوك لا ينبع من فراغ، بل من منظومة كاملة من القيم التي تُحرّض على كراهية المرأة المستقلة، وتُحرض ضد أي امرأة ترفض أن تكون تابعًا. المجتمع الذكوري لا يكتفي بإقصاء النساء من المجال العام؛ بل يلاحقهن داخل هواتفهن، في صورهن، وفي تفاصيل يومياتهن.
مظهر المرأة ليس ملكًا لأحد
أحد أبرز مظاهر هذا العنف الرقمي يتمثل في الهوس المجتمعي بالسيطرة على مظهر المرأة. اللباس الأنثوي يتحول إلى بيان سياسي، والصورة الشخصية إلى تهديد لأمن الدولة الذكورية. لا يُسمح للمرأة بأن تختار كيف تبدو أو ما ترتديه دون أن تخضع لمحاكمات علنية لا تستند إلا إلى هوس متأصل بـ"ضبط" الجسد الأنثوي، وفقًا لمقاييس رسمها رجال الدين والتقاليد والسلطة الأبوية.
في المجتمعات الذكورية، يُنظر إلى جسد المرأة كما لو كان "ملكية عامة" يجوز مناقشتها، تصنيفها، والتحريض عليها. وهذا ما يُظهر أن معركة المرأة ليست فقط مع المنظومات السياسية أو الاقتصادية، بل مع ذهنية جمعية تعيد إنتاج القمع من خلال التنمر، والوصاية، والرقابة الجماعية.
المرأة في مرآة القيم المزدوجة
في مجتمع يقدّس الذكورة ويجرّم النسوية، تُختزل القيم في طاعة المرأة، وتُقاس الأخلاق بمقدار ما تُخفي من جسدها أو تُحجم من صوتها. الرجل يُمنَح الحق في الخطأ والتجريب، بينما تُحاسب المرأة على حريتها كما لو كانت جريمة أصلية. حتى حين لا تفعل شيئًا، تُدان بنواياها، أو بنوايا الآخرين تجاهها.
هذه الازدواجية لا تنتج فقط عن النصوص الدينية أو الثقافية، بل عن بنية عميقة من السيطرة النفسية والاجتماعية التي تحوّل كل امرأة حرّة إلى مصدر تهديد يجب تحجيمه. وأخطر ما في هذه المنظومة أنها تزرع الخوف في الضحية، وتُشعرها بالذنب، وكأنها مسؤولة عن العنف الذي يُمارس ضدها.
آثار لا تُرى... لكنها تنزف
العنف الرقمي ليس نظريًا أو معنويًا فحسب؛ بل هو عنف نفسي حقيقي يترك ندوبًا عميقة. الكثير من النساء اللواتي يُهاجَمن عبر الإنترنت يعانين من العزلة، القلق، تدهور الصحة النفسية، وبعضهن يتوقفن عن الكتابة أو الانخراط في العمل العام. الهجوم لا يقتصر على "المنشور" أو "الصورة"، بل يمتد إلى الأسرة، السمعة، والمكانة الاجتماعية.
وفي هذا المشهد، يتحول المجتمع بأكمله إلى جهاز رقابة جماعية يُشهر بالمرأة، ويدفعها إلى التواري والانكفاء. وكلما انسحبت امرأة من الفضاء العام، كسبت الذكورة المريضة جولة جديدة في معركتها ضد الحياة.
المواجهة تبدأ من الاعتراف: هذا ليس رأيًا، بل قمع
ما يُمارس ضد النساء لا يمكن تسميته اختلافًا في الرأي. التنمر على النساء بسبب آرائهن، صورهن، أو لباسهن ليس ممارسة ديمقراطية، بل إرهاب ناعم يهدف إلى إعادة النساء إلى الظل، حيث لا يُرَين ولا يُسْمَعن. ومن هنا، فإن أول خطوات المقاومة تبدأ برفض تبرير هذا القمع، أو التواطؤ معه تحت ذريعة "الحياء" أو "الثقافة المحلية".
المعركة ليست ضد رجل بعينه، بل ضد منظومة كاملة من الامتيازات التي تجعل من الذكور وكلاء على أجساد النساء وعقولهن. لا يمكن إصلاح هذا الواقع ما لم يُكسر الحاجز الثقافي الذي يُبرر القمع باسم الفضيلة، ويُشيطن الحرية باعتبارها فوضى.
نحو ثقافة حرية لا تنتقي ضحاياها
المطلوب ليس فقط سنّ قوانين، بل تفكيك الثقافة التي تحتقر المرأة، وتتعامل مع جسدها كمصدر دائم للريبة. على المدارس، والجامعات، والمنابر الإعلامية أن تُعيد تعريف مفهوم الأخلاق بمعزل عن الجسد الأنثوي، وأن تربي الأجيال القادمة على احترام الفرد لا على رقابته.
كما يجب أن تتحمّل منصات التواصل الاجتماعي مسؤوليتها، عبر سياسات صارمة ضد التنمر والتشهير، خاصة في المجتمعات التي تُستخدم فيها هذه المنصات كوسائل قمع لا تعبير.
في الختام: الحريّة لا تحتاج إلى إذن
المرأة ليست مشروع إصلاح أخلاقي، ولا موضوعًا للنقاش العام. هي إنسان كامل، لها الحق في التعبير، الاختيار، والحضور، دون وصاية ولا استئذان. وما لم يتحقق ذلك، فإن كل حديث عن حرية أو عدالة في هذا المجتمع سيبقى مجرد ديكور هش يغطي جدارًا متعفنًا من العنف والتناقض.
الحرية ليست تنازلًا تُمنحه الذكورة عندما ترضى، بل هي أصل إنساني لا يُجزّأ. وكل امرأة تُقمع لأنها اختارت أن تكون حرة، هي شاهد جديد على إفلاس هذه الذكورة التي لا تملك إلا أن تهاجم، لأن وجودها ذاته مبني على غياب الآخر.
⚓
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|