![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
إياد هديش
!--a>
2025 / 6 / 30
الحب، تلك التجربة الإنسانية النقية التي يُفترض أن تقوم على الحرية والتبادل، يتحوّل في المجتمعات المحافظة إلى ميدان مغلق لا يُسمح للجميع بدخوله على قدم المساواة. وفي اليمن، كما في كثير من المجتمعات العربية، يصبح التعبير عن الحب للمرأة ليس فقط محظورًا، بل خطرًا وجوديًا، وعملية معقدة محفوفة بالتشكيك، والعقاب، والتجريم الأخلاقي. يُراد لها أن تحب، نعم، ولكن بصمت. أن تشعر، ولكن بلا صوت. أن تُحبّ، لكن لا تروي. وهكذا، يتحوّل الحب من علاقة بين طرفين إلى سردية أحادية الصوت، يُهيمن فيها الرجل على مساحة القول، وتُقصى منها المرأة إلى هامش صامت أو صُوري.
هذا المقال يتتبع الظاهرة من جذورها العميقة، محاولًا تشريح صمت المرأة العاطفي في الثقافة اليمنية، ليس بوصفه ميزة أخلاقية كما يُصوّر، بل بوصفه قيدًا اجتماعيًا وثقافيًا ممنهجًا، تُسهم في ترسيخه الأسرة، المدرسة، المسجد، والدولة. فالوصاية العاطفية تبدأ مبكرًا جدًا، حيث تتعلّم الفتاة أن مشاعرها ليست ملكًا لها، وأن البوح بها قد يكلّفها سمعتها، حريتها، وربما حياتها. بينما يُكافأ الرجل على جرأته العاطفية، تُدان المرأة على صدقها، وتُربّى على أن الشرف يبدأ من صمتها وينتهي عند قبر قلبها.
ومن خلال تحليل دقيق للموروث الفني والأدبي، يتضح كيف جرى بناء هذا الصمت بوصفه هوية رمزية للأنثى في الحكاية العاطفية. في القصائد القديمة كما في الأغاني الحديثة، تحضر المرأة كموضوع للحب، لا كفاعل فيه. نقرأ عن ليلى، وعبلة، وبثينة، لكننا لا نسمع أصواتهنّ، ولا نعرف كيف أحببن أو تألمن. فالتاريخ الأدبي العربي حبّرته أقلام الرجال، الذين احتكروا السرد والحكي والتوثيق، وصنعوا من الحب رواية من طرف واحد. وحتى حين كتبت المرأة، غالبًا لم يُسمح بنشر صوتها، أو حُجِم ضمن قوالب "الأنوثة الرزينة" التي تفرض الخضوع والانتظار وتمنع المبادرة والرغبة.
ثمّ تأتي السلطة الذكورية، لا كمجرد تمثّل اجتماعي، بل كنظام ثقافي متكامل، يجعل من صمت المرأة حالة طبيعية وفضيلة أخلاقية. لا يُطلب منها أن تفهم مشاعرها، بل أن تتجنّبها. لا أن تكتب تجربتها، بل أن تنكرها. وفي هذا السياق، تغيب أي حماية قانونية أو سياسية لحق المرأة في الحب، أو حتى في التعبير عن خذلانها العاطفي، ليصبح كل بوحٍ منها مشروع تدمير ذاتي محتمل.
لكن رغم هذا القمع الرمزي العميق، لم يكن الصمت كاملًا. فهناك دومًا من كتبت في الظل، أو تحدّت السائد. سواء في الأدب الرسمي مثل قصائد هدى أبلان، أو في نصوص إلكترونية مجهولة لنساء يكتبن تحت أسماء مستعارة عن الحب والرغبة والخيانة والفقد، بلا وساطة، ولا مجاملة، ولا رقابة. هذه الكتابات، التي قد لا تجد مكانها في الدواوين أو الصحف، تُشكل أرشيفًا عاطفيًا نسويًا غير رسمي، لكنه نابض وصادق، وأقرب إلى الواقع من كل ما كتب في قاعات الشعر والجوائز.
هنا، يتحول الفضاء الرقمي من ساحة عامة إلى ملاذ نسوي، تُدوّن فيه الفتاة ما لا تستطيع قوله في البيت أو المدرسة أو الزاوية الاجتماعية الضيقة. أصبح "فيسبوك"، و"إنستغرام"، و"إكس" منصات تعبير حقيقية، تُعيد للمرأة صوتها العاطفي، وتفتح الأبواب أمام مشروع ثقافي جديد، حيث الحب ليس ترفًا، بل فعل مقاومة، والبوح ليس ضعفًا، بل شجاعة وجودية.
وفي ظل هذا التحول، يُطرح سؤال ضروري: ما دور النسويات والناشطات في مرافقة هذا الخطاب الجديد؟ وكيف يمكن تحويل هذا الأرشيف الرقمي العاطفي إلى مادة تحليل وتوثيق ونقد، لا مجرد منشورات عاطفية عابرة؟ وكيف يمكن إعادة بناء علاقة المرأة بالحب بوصفها علاقة مساواة، لا اختبارًا للأخلاق أو محكمة للنوايا؟
إنّ استعادة صوت المرأة في الحب ليست قضية وجدانية فحسب، بل مشروعًا تحرريًا يعيد التوازن إلى مفاهيم العاطفة، ويمنح النساء الحق في أن يُحببن، ويُخذلن، ويَكتبن، دون أن يُعامَلن كخطرٍ على النظام الأخلاقي. فحين تكتب المرأة عن الحب، فإنها لا تُدوّن فقط مشاعرها، بل تُطالب بحقّها في أن تكون إنسانة كاملة، لا ظلًا لرجل، ولا ملهمةً صامتة في روايته الخاصة.
■ المرأة بين الحب والوصاية الاجتماعية
رغم أن الحب من أصدق التجارب البشرية وأكثرها بداهة، إلا أن التعبير عنه، في المجتمع اليمني، خاضع لسلطة الوصاية الأخلاقية والاجتماعية، التي تُفرّق بوضوح بين ما يجوز للرجل قوله وما يُمنع عن المرأة. فبينما يُكافأ الرجل على جُرأته العاطفية ويُنظر إلى اعترافه بالحب كعلامة رجولة أو صدق، تُواجَه المرأة بالتشكيك، أو يُفترض في مشاعرها الخضوع والانتظار، لا المبادرة والاعتراف.
الفتاة اليمنية تتعلم، في سن مبكرة، أن مشاعرها ليست ملكًا لها، بل خاضعة لتصاريح اجتماعية: يُراقب لسانها، تُخضع عواطفها للرقابة، وتُلقَّن أن أي انفعال عاطفي يجب أن يُكبت حتى لا يُساء فهمه. فحتى الحب، وهو في جوهره حرية واختيار، يُحوَّل إلى امتحان للأخلاق.
في كثير من البيوت، لا يُناقش الحب مع البنات إلا بوصفه خطرًا، ومصدر تهديد للسمعة، أو مادة للفضيحة. وحين تقع الفتاة في الحب، تعيشه كذنب داخلي، يُنتج شعورًا دائمًا بالذنب، وكأنها خرقت قانونًا خفيًا لا يُكتب لكنه يُطبّق بقسوة.
هكذا، يتحول الحب من تجربة تُغني الوجود، إلى عبء تَكبُته المرأة باسم الحياء، وتتحمّله وحدها باسم الشرف، ويظل الرجل هو المالك الحصري لصوت الرواية والمبادرة.
■ التقاليد كحاجز صوتي صلب
لا تُبنى القيود على العاطفة الأنثوية من فراغ، بل تُرسّخها سلسلة من البنى التقليدية المتشابكة: تبدأ من الأسرة، وتمتد إلى المدرسة، المسجد، والمجتمع المحلي، حتى تصل إلى الدولة نفسها، التي لا توفّر أي حماية قانونية للنساء في قضايا العنف العاطفي أو التمييز القائم على النوع الاجتماعي.
تُلزم الأعراف المرأة بالبقاء في دائرة "الصون" و"السكينة"، حيث يُنظر لأي تعبير شعوري خارج هذه الدائرة كـ "انفلات". والنتيجة أن صوت المرأة يصبح مرادفًا للريبة، وكل بوح منها يُقرأ عبر عدسة الاتهام.
وفي حالات كثيرة، لا يُمنع صوت المرأة فقط، بل يُعاقَب إن خرج. فالتعبير العاطفي قد يتحوّل إلى ذريعة لتشويه السمعة، أو سببًا لنزع "الثقة الأسرية"، وقد يُتّخذ كبداية لإجراءات تقييدية: منع الخروج، سحب الهاتف، مراقبة التعليم.
أما في الفضاء الرقمي، والذي يفترض أنه مفتوح، فالملاحقة لا تقلّ قسوة. كثير من النساء اللواتي تحدثن عن مشاعرهن، أو كتبن نصوصًا عاطفية في وسائل التواصل، تعرضن لحملات تنمر، وتساؤلات عن سلوكهن، بل وتهديدات مباشرة من داخل أسرهن.
هذه الجدران لا تصادر فقط تعبيرًا شعوريًا، بل تكرّس علاقة غير متوازنة، يصبح فيها الحب نفسه أداة لتطبيع القمع: لا تُعبّري، لكي لا تُساء سمعتك. لا تُحبي، لكي لا تُخوني "الثقة". والنتيجة: تُحبّ المرأة في الظل، ويُعاد تأهيلها كل يوم لتخاف من صوتها أكثر من أي شيء آخر.
■ الحب في مرآة الموروث الفني.. بين التغني بالأنثى وتغييب صوتها
يُعد الموروث الفني والأدبي مرآةً تعكس عمق البنى الاجتماعية، وفي الحالة اليمنية والعربية عمومًا، يظهر هذا الموروث كمسرح يُحتفى فيه بجمال المرأة وبهائها، بينما يُقصى صوتها تمامًا من لعب دور الفاعل في الحب.
في الأغنية اليمنية، يُغنّى للمرأة كثيرًا لكن نادرًا ما يُغنّى منها أو عنها كما ترى نفسها. فهي غالبًا رمز صامت: "بنت الريف"، "بنت السلطان"، "العاشقة الخجولة"، الحاضرة كـ"مُلهِمة"، لا كشخصية حية ذات لسان وقرار. الرجل يكتب، يغني، يشتكي، ينتظر، يرحل.. أما هي فإما أن تحضر كصورة حالمة، أو تغيب تمامًا في سكونٍ يُفترض أنه "حياء".
حتى في الأغاني العاطفية ذات الصوت النسائي، غالبًا ما يُكتب النص من قبل رجل، وتُفرض على المرأة قوالب وجدانية "مسموح بها": الانتظار، الندم، الخضوع، الشكوى الرقيقة.. أما الجرأة، الرغبة، أو المبادرة فغائبة، وتُعدّ خرقًا للسلوك المقبول.
في الشعر، المشهد لا يختلف كثيرًا. طوال قرون، كتب الشعراء عن ليلى، وعبلة، وسعاد، ولبنى، ولكن أين كنّ هؤلاء؟
> ماذا قالت ليلى عن قيس؟
هل عبّرت عبلة عن حبها لعنترة يومًا؟
من يعرف مشاعر بثينة تجاه جميل، خارج ما قاله هو عنها؟
نحن أمام عشق مدوٍّ من طرف واحد، حيث المرأة موضوع شعر، لا شاعرة. تُروى الحكاية باسمها، لكن يُصاغ صوتها دائمًا بلسان الرجل. وهكذا تحوّل الأدب إلى ساحة اختطاف لعاطفة المرأة، تُمنَح فيها أدوار البطولة الصامتة، دون أي سيطرة على السرد أو اللغة.
بل إن القصص التي تُصنّف كـ"قصص حب عظيمة" في التراث العربي - كقصة مجنون ليلى، أو جميل بثينة أو عنترة وعبلة.. إلخ - تنطوي على غياب تام أو رمزي للعنصر النسوي. لم تُسجَّل لنا رسائل ليلى، ولا قصائد بثينة، بل اعتمد السرد بالكامل على عذاب الشاعر العاشق، فيما بقيت الحبيبة صورة تُستدعى عند اللزوم.
هذه الظاهرة ليست مجرّد صدفة، بل تعبير بنيوي عن مصادرة صوت المرأة في الحب، حتى حين تكون هي مركزه. لقد صيغت العاطفة في الثقافة العربية بلغة الرجل، ومن وجهة نظره، فكان الحب المروي ناقصًا، ومختلّ التوازن.
والسبب في هذا الخلل لا يقتصر على الأعراف الاجتماعية، بل يرتبط بدور الذكورية كنظام ثقافي وهيكلي فرض الصمت على المرأة لا كحالة شعورية، بل كهُوية مُفضّلة ومطلوبة. صمت المرأة لم يُقدَّم كقرار فردي، بل صُوّر كفضيلة أنثوية، وكل تعبير منها عن الحب عُدَّ تهديدًا للأخلاق والوقار.
الذكورية لم تكتفِ بتكميم صوت المرأة، بل منعت تسجيله وتوثيقه، ما أدى إلى خسارة شبه كاملة للأرشيف العاطفي النسوي. لم يكن الأمر أن النساء لم يُحببن أو يكتبن، بل أن ما قلنَه لم يُدوَّن، وما كتبنه أُهمل، وما عبّرن عنه شُكِّك فيه أو نُسب إلى رجال. وحتى حين تتكلم، تُفسَّر عواطفها من الخارج، لا من داخلها، ويُعاد تشكيل خطابها وفق ما يراه الرجل مقبولًا أو مغريًا.
في السياق اليمني، تتكرر هذه الإشكالية في الزوامل والأغاني الشعبية، حيث تحضر الأنثى بصيغة المجاز أو التشفير. وحتى في حالات الشاعرات الشعبيات (وهن كثيرات)، لا يُفسَح لهن المجال للغناء عن الحب بشكل مباشر، بل غالبًا ما يُنشر شعرهن بعد وفاتهن، أو يُنسب إلى رجال باسم مستعار. وقد عرف اليمن شاعرات مجهولات في الريف كتبن عن الخذلان، والغياب، والانكسار، لكن القوالب العرفية منعت تدوين تجاربهن كأعمال حب صريحة.
ومع ذلك، ظهرت في السنوات الأخيرة محاولات نسائية فردية لكسر هذا الصمت، مثل بعض الكتابات الأدبية الرقمية لشابات يمنيات تحدّثن عن الحب، والرغبة، والخذلان من منظور شخصي. لا تزال هذه التجارب محدودة من حيث الانتشار، لكنها تُمثّل كسرًا رمزيًا مهمًا لموروث طويل من الصمت العاطفي المفروض على المرأة.
إن استعادة صوت المرأة في الحب ليست فقط قضية فردية أو جمالية، بل مهمة ثقافية وتاريخية لإعادة الاعتبار لعاطفة أُقصيت عمدًا من كتب المحبة والوجدان، بدافع ذكوري أراد أن يحتكر الحب، ويُعيد تعريفه ضمن شروطه الخاصة: أن يكون من طرفه، وعلى لسانه، وبحسب مقاييسه.
■ نماذج نسائية كسرت الصمت العاطفي في الأدب اليمني والعربي
رغم كثافة الصمت الذي أحاط بالمرأة العاشقة في الثقافة العربية واليمنية، إلا أن التاريخ لا يخلو من محاولات نسائية جريئة لاختراق هذا الحظر، سواء عبر الكتابة الصريحة، أو التعبير الرمزي، أو حتى التمرد على بنى التوثيق الذكورية التي اعتادت أن تُبقي صوت المرأة العاطفي في الظل. في الأدب العربي، برزت أسماء مثل غادة السمان، التي حوّلت رسائلها العاطفية إلى فعل تمرّد معلن ضد مجتمع لا يسمح للمرأة بأن تقول "أحبك" علنًا، وكانت رسائلها إلى غسان كنفاني بمثابة تمزيق لستار العار الاجتماعي الذي يُغلف العاطفة الأنثوية. كذلك كتبت بثينة العيسى، لا عن الحب فقط، بل عن الافتقاد، والخوف من الفقد، والخذلان، كحالات شعورية لا تقل أهمية عن لحظة العشق نفسها، راسمة ملامح بطلات تواجهن العالم بمشاعر معقّدة، لا تُختصر في الحياء ولا تُغلف بالاستسلام. وفي مصر، اختارت نوال السعداوي فضح العلاقة بين القمع الجنسي والقمع العاطفي، معتبرة أن حرمان المرأة من الحب هو جزء من مشروع السيطرة عليها جسديًا ونفسيًا. أما في اليمن، حيث القيود أشد، والموروث أكثر تسلّطًا، فبرزت كتابات متفرقة لكنها شجاعة. الشاعرة "هدى أبلان"، على سبيل المثال، كتبت قصائد تحمل لغة عاطفية شفافة رغم القيود، وتطرقت إلى خيبات الحب والرغبة المغلقة بأبواب المجتمع. في إحدى قصائدها تقول: "أخاف عليك من قلبي.. ومن نفسي التي لا تعرف الحذر حين تحب"، وهي جملة قصيرة تختصر مأساة المرأة العاشقة في مجتمع يريدها بلا نبض. كذلك نجد في كتابات "رُبى الخولاني" و"فكرية شحرة" تعبيرًا واضحًا عن الحنين، والرغبة، والخذلان، من منظور ذات نسوية لا تخجل من حاجتها للعاطفة، بل تراها جوهر إنسانيتها. وربما الأهم أن هناك كتابات رقمية كثيرة لشابات يمنيات في فيسبوك وإنستغرام ينشرن تحت أسماء مستعارة نصوصًا عاطفية شديدة القوة، تفيض حبًا وألمًا، تروي تجاربهن مع رجال غادرين، أو مشاعر دفينة لم يُسمح لها بأن ترى النور. هذه الكتابات، وإن لم توثق بعد، تمثل أرشيفًا حيًا لما يمكن تسميته بـ"الأدب العاطفي النسوي اليمني غير الرسمي"، وهو أدب قد يكون أكثر صدقًا من كل ما كتب في دواوين الحب الرسمية، لأنه نابع من خوف حقيقي، وكتابة ضد الجرح، لا للزينة. إن هذه النماذج، سواء المنشورة أو المكبوتة، تمثل مقاومة فعلية لمحاولة محو صوت المرأة من سجل الحب، وهي تؤسس لما يمكن أن يُبنى عليه لاحقًا من خطاب عاطفي نسوي صريح، يُحرر العلاقة من الاستحواذ الذكوري ويعيد للمرأة لغتها الضائعة.
■ محاولة تشريح الظاهرة.. الكتابة النسوية العاطفية كفعل مقاومة ثقافية
تبدو الكتابة العاطفية للنساء اليمنيات في الفضاء الرقمي وكأنها تمرين على الكلام، لا من أجل البوح فقط، بل من أجل تثبيت الوجود. ففي مجتمع اعتاد أن لا يرى في المرأة سوى جسد يجب ستره، أو سمعة يجب حفظها، تصبح الكتابة عن الحب فعلًا سياسيًا، وموقفًا وجوديًا، يتحدى ليس فقط الرقيب الاجتماعي، بل النظام الرمزي كله الذي حكم على المرأة بالعجز العاطفي. ما يحدث اليوم هو أن جيلًا رقميًا جديدًا من الشابات اليمنيات بدأ يُعيد تعريف العلاقة بين الأنثى والحب: لم تعد المرأة مستهلكة لنصوص الرجل، ولا مجرد صدى لعاطفته، بل أصبحت تكتب عن ذاتها، بلغة ذاتها، وبمفرداتها الخاصة التي لا تخضع لبلاغة الحياء المصطنع ولا لأوزان الرجولة المفروضة. في هذه النصوص، نجد للمرة الأولى قصص حب لا تنتهي عند البكارة ولا تبدأ عند الزواج. تكتب الفتاة عن الحبيب الغائب، عن الرسائل المحذوفة، عن مكالمات منتصف الليل، عن الشعور بالرفض، عن الرغبة غير المكتملة، عن التعلق المرضي، عن الغضب من الخيانة.. وكلها مشاعر كانت تُصنّف في السابق كعيب، أو كـ"تفاهة نسوية" لا ترقى لمستوى الأدب. لكن حين تُكتب بصدق، تتحول هذه التجارب إلى مادة نقدية، تضع المجتمع في مواجهة حقيقته: كيف يُطالب المرأة بالعفّة دون أن يسمح لها حتى بفهم جسدها؟ كيف يُدينها على حب لم تعشه إلا في صمت؟ وكيف يختزل مشاعرها في "مؤامرة على الشرف"؟ الأخطر أن هذا القمع العاطفي الممنهج لا يقف عند حدود الحاضر، بل يُعيد تشكيل الأجيال القادمة، فالبنت التي تُعاقب على حبّها لن تجرؤ على الاعتراف بالخذلان، ولن تطلب المساندة حين تُستغل، ولن تكتب شيئًا يُدين المعتدي عليها، لأنها تعيش أصلًا في بيئة تضع اللوم على "المشاعر" لا على الجريمة. الكتابة هنا، رغم بساطتها، تصبح مقاومة مزدوجة: مقاومة لخطاب ذكوري يُحاصر العاطفة في قوالب "الستر"، ومقاومة لثقافة ترفض الاعتراف بأن الحب حقّ، لا جريمة. وحتى وإن لم تصل هذه الكتابات إلى المنصات الأدبية أو الجوائز، إلا أنها تُحدث أثرًا حقيقيًا: فهي تُعيد للمرأة اليمنية القدرة على تسمية الأشياء، على وصف مشاعرها دون خوف، وعلى إعلان أنها ليست صورة ولا ملهمة ولا ظلًا في قصائد الرجال، بل إنسانة تكتب الحب لأن قلبها لا يعرف الصمت. وما زلنا في بداية الطريق، لكن الجدران بدأت تتشقق.
■ الفضاء الرقمي كمنصة تحرر وعمل ثقافي.. حين تكتب النساء الحب من أجل التاريخ لا فقط من أجل البوح
في مجتمع يُعلّم الفتاة منذ طفولتها أن صوتها عورة، وعاطفتها خطر، وحبّها مؤامرة، فإن الكتابة العاطفية في وسائل التواصل الاجتماعي لا تأتي فقط كفعل شخصي، بل كاختراق ثقافي، وتمرّد على نظام رمزي بأكمله. هذه المساحات، التي قد تبدو في ظاهرها عشوائية، أصبحت تمثل منصة بديلة لتحرير النص النسوي العاطفي، ولفتح أرشيف ظلّ مغلقًا لعقود طويلة بفعل العادات، والرقابة، والتجاهل الذكوري.
فمن خلال حساب في "فيسبوك"، أو منشور في "إنستغرام"، أو تغريدة قصيرة في "إكس"، تكتب المرأة اليمنية اليوم عن تجربتها العاطفية بلا وسيط، ولا وصي، ولا قيد رسمي. ومع أن هذه النصوص قد لا تُنشر في كتب، ولا تُصنّف كأدب "كبير"، إلا أنها تُعيد تشكيل جوهر الخطاب العاطفي النسوي، لأنه ولأول مرة، يُكتب بلغة الذات، لا بلغة الآخر.
● المساحات الافتراضية: من المدوّنة الشخصية إلى أرشيف نسوي جماعي
في السابق، كانت النساء بحاجة إلى كاتب رجل يترجم لهن مشاعرهن، أو إلى دار نشر يقبل بتمرير بوحهن ضمن شروط "الاحتشام"، أو إلى رجل متفتح يتبنى تجربتهن كمُلهمة. أما الآن، فقد تجاوزت كثير من الشابات هذه القنوات التقليدية، وصنعن أرشيفًا حيًا، متجددًا، يوميًا، ومليئًا بالتجارب التي كان يُمنع عليهن حتى التفكير في كتابتها.
نقرأ الآن تدوينات عن حب لم يكتمل، عن رسائل مخبّأة، عن خيانة هزت الثقة، عن شوق محموم، عن ألم التعلق، عن الحبيب الغائب، وحتى عن الرغبة الجسدية المكبوتة. هذه نصوص تُكتب بصراحة غير معتادة، وبشجاعة صادمة، لا تهدف للفضح ولا للزينة، بل للسرد، وللتوثيق، وللتصالح مع الذات. الكتابة هنا لا تجمّل المشاعر، بل تخرجها من الظل إلى العلن، وتعيد لها اسمها وهويتها.
هذه النصوص، رغم بساطتها، تشكّل ما يمكن أن يُسمّى بـالذاكرة العاطفية البديلة للمرأة اليمنية والعربية، وتقدم للباحثين والنسويات والقرّاء أرشيفًا خامًا وصادقًا ومفتوحًا، يُبيّن كيف تعيش المرأة العاطفة، لا كما تُتَخيَّل، بل كما تتألم وتفرح وتنهار وتقوم.
● الدور الحاسم للنسويات والناشطات: من التوثيق إلى التحليل وإعادة التشكيل
وليس هذا التحول في المشهد العاطفي الرقمي محصورًا في البوح الفردي، بل بات يشكّل فرصة هائلة أمام النسويات العربيات واليمنيات لإعادة التفكير في بنية الخطاب العاطفي التقليدي، وتطوير أدوات نقده. إذ يمكن أن يُستثمر هذا السيل من الكتابات في:
- تحليل نماذج القمع الرمزي والعاطفي من داخل تجارب النساء أنفسهن، لا من خارجها.
- إعادة بناء أرشيف أدبي نسوي عاطفي بديل، يضع الحب والرغبة والخذلان في قلب التجربة النسوية.
- توسيع تعريف النسوية لتشمل العاطفة كحق إنساني ووجودي، وليس فقط الجسد والسياسة والعمل.
النسويات في هذا السياق مدعوات إلى لعب دور مزدوج: أن يصغين لهذه النصوص ويقرأنها بجدية، وأن يعملن على جمعها، أرشفتها، تحليلها، ودفعها باتجاه النشر والتدوين الأكاديمي، لا فقط مشاركتها كمنشورات عاطفية عابرة. فكل نص تُدوّنه فتاة من ريف يمني أو حيّ شعبي أو حتى من المهجر، هو وثيقة نسوية خالصة، تحمل في طيّاتها شجاعة وجودية نادرة.
كما أن هذا الإنتاج المتزايد من النصوص العاطفية النسوية الرقمية، يفرض على الخطاب النسوي العام أن يُعيد التفكير في موقع الحب والعاطفة من مشروع التحرر. لم تعد العاطفة مجرد ترف أدبي، أو لحظة شعرية، بل أصبحت ميدان صراع حقيقي: صراع مع الذات المقموعة، ومع المجتمع الرافض، ومع اللغة التي لا تزال مشبعة بتقاليد الحياء والعار.
● من البوح إلى التغيير: الإمكانية السياسية للكتابة العاطفية
حين تُكتب هذه النصوص، لا تُكتب لتُقرأ فقط، بل لتخلق أثرًا. كل بوح نسائي يُنشر هو تفجير صغير في جدار ثقافي قديم. هو لحظة مواجهة مع مجتمع علّم المرأة أن تحبّ في الخفاء، وتبكي في الصمت، وتكتب لنفسها في دفتر مخفي تحت السرير. اليوم، لا دفتر ولا خفاء. بل شاشة، ومنشور، وتعليق، وصدى. والمرأة التي كتبت حبّها بالأمس، قد تكتب غدًا عن قهرها، وبعده عن مقاومتها، وبعد سنوات عن بناء خطاب كامل يُنهي قرونًا من الصمت.
بهذا المعنى، تصبح الكتابة العاطفية النسوية ليست فقط توثيقًا للمشاعر، بل مشروعًا ثقافيًا ذا أبعاد سياسية واجتماعية. مشروع يعيد توزيع المعنى، ويُعيد تعريف الحب، ويستعيد الكلمة من فم الرجل الذي احتكرها طويلًا.
لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة للمرأة اليمنية، لا مجرد وسيلة ترفيه، بل مساحة نادرة لقول ما لم يكن يُسمح لها بقوله: "أنا أحب"، "أنا أشتاق"، "أنا أُخذل"، "أنا أكتب". وهذا، وحده، ثورة.
■ الحب لا يكتمل بالصمت.. إعادة تعريف العلاقة العاطفية في مجتمع ذكوري
الحب، كما يُفترض، علاقة إنسانية تنبني على الحرية والتبادل والصدق، لكنه في السياق اليمني يتحول إلى منظومة مقنّعة من الطاعة العاطفية. يتعلم الرجل منذ صغره أنه يملك الحق في البوح، في التعبير، في المغازلة وحتى في الخيانة، بينما تُلقّن المرأة أن الحب مغامرة محفوفة بالخطر، وأن كل اعتراف منها قد يُعد سقوطًا أخلاقيًا. فيكبر الفتى وفي يده كل أدوات التعبير، وتكبر الفتاة وفي فمها قفل، وفي قلبها رقابة ذاتية مزروعة بعناية. إن هذا النوع من "الحب من طرف واحد" لا يُنتج علاقات حقيقية، بل يكرّس نمطًا من السيطرة الناعمة، حيث يصبح الصمت فضيلة، والخضوع رومانسية، ويُفهم الصدق كتهور، والمبادرة كوقاحة. في هذه البيئة، لا تعيش المرأة الحب كاختيار، بل كمحنة، تُخفيه وتكتمه وتحمّله في قلبها مثل جرمٍ لا يُغتفر. فإن باحت، حوصرت. وإن سكتت، اختنقت. وإن كتبت، طُعنت بسكين الشرف. وإن أحبّت، عوقبت بإجراءات تُشبه الأحكام: منع، مصادرة، سحب للهاتف، تشويه للسمعة، وتهديد بالزواج الإجباري أو العزلة القسرية. بذلك، يصبح الحب للمرأة اليمنية تجربة تُخاض لا لتُعاش، أشبه بامتحان دائم للسكوت الجميل، أو بالأحرى الصمت المفروض. وهذا لا يخلق امرأة مُحبة، بل امرأة خائفة. ولا يُنتج شريكًا عاطفيًا، بل تابعًا مذعورًا. والنتيجة أن آلاف النساء يمررن بتجارب حب لا يكتبنها، ولا يُعترف بها، ولا تُذكر في أي سجل من سجلات العلاقات. تُحبّ ثم تُنسى، تُخذل ثم تُلام، وتبقى صامتة حتى في أكثر لحظات حياتها حميمية. لذلك، فإن تحرير صوت المرأة في الحب ليس مطلبًا فرديًا أو رفاهية نسوية، بل ضرورة ثقافية لبناء مجتمعات تُعامل المرأة بوصفها ذاتًا كاملة، قادرة على الحب والمبادرة، على البوح والخذلان، على العطاء والتمرد، دون أن يُطلب منها أن تدفع ثمن إنسانيتها. فالحب، حين لا يُسمح إلا لطرف واحد أن يرويه، لا يعود حبًا، بل سردية مختلّة. وإذا أردنا أن نعيد تعريف العلاقة العاطفية على أسس إنسانية، فعلينا أولًا أن نستمع إلى المرأة، لا بوصفها موضوعًا للحب، بل صانعة له، ومالكة لصوتها، وجزءًا أصيلًا في كتابة حكاية لا تخجل من الحب ولا تنفيه، بل تعترف به كحق، وككرامة، وكحرية.
⚓
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|