**رجل في بيت منسي**



خيرالله قاسم المالكي
2025 / 7 / 4

لم أكن عَقيمًا، وامرأتي لم تكن عاقرًا. وجوهنا كأساتنا من لونٍ واحدٍ يفتقده مَن لا يقرأ أو يكتُب، لونٍ ليس بهجينٍ ولا خاتمةِ الأوان. إنه الابتداء غير المزيف، لونٌ يسمُّونه الأبيض: زيتونةَ السلام ورايةَ مجده.
هكذا كان البيت في أشد صمته صامتًا، حيًّا لم تُنتزع روحه. يتنفَّس أيامَه والسِّنينَ المحفوظةَ في ذاكرةٍ ورواياتٍ، في خزائن الحياة. أبوابه وشبابيكه مغطاةٌ بالتراب المتراكم، لكنها تتنفَّس عندما تكون وحيدةً وبخفاء.
سِرُّ الأبواب المغلقة: صمتها وكلامها المبهم وألمها، كبكاء الخشب التاريخيّ في خلواته المعتادة.

دخل الرجل متردِّدًا وبخوفٍ غير معتاد، كرجلٍ نسي حقيبةَ سفره لا بابَ منزل.
أَصابَتْهُ ذاكرته؛ لا يعرف البيت، أو ربما هذا دارٌ بخَلَده أو ما كان يتصوَّر.
بيد أن الأثاث – بما فيه الصور المعلقة في واجهات الغرف والممرات – لم يكن واضحَ المعالم. غطاها الغبار وذابت فيه. الصور كانت قديمةً، نامت تحت ملامح الغبار. بأشكالها لم تكن مألوفةً، صورٌ تراكمت عليها الأيامُ وسنواتُ العمر، أطرُها الخشبية متآكلةٌ ومُغَبَّرة. وجوهٌ بعضها شبه واضح، وأُخَرٌ مموَّهةٌ، كأن العمرَ طَمَسَ سوَاتِها ثم بصق عليها.

بعد استراحةٍ ليعيد ذاكرته، دنا من إحدى صور الممر تمامًا. تأمَّلها بإمعانٍ: صورةٌ لوجهٍ يشبه وجهه. في أحد جوانبها، عند الزاوية السفلى على يمين الإطار، بَصمةٌ بخطٍّ فاقدٍ لونه محفورةٌ على الخشب. مكتوبٌ تاريخٌ قديمٌ لا يُمكن قراءته كله؛ فقد سَقَطَتْ سنةٌ من سنوات العمر. كانت واضحةً بعض الشيء... تاريخٌ أبعدُ من تاريخ ميلاده.

كلُّ ما تحتويه غرفةُ الجدِّ موجودٌ في وعيه: آثار الأيام، حصيرةٌ متآكلةٌ، وطاولةٌ فوقها مزهريةٌ وورقٌ مطويٌّ وكتابٌ مفتوح، إضافةً إلى كرسيٍّ خشبيٍّ حول الطاولة. وأيضًا مذياعٌ يُفِزُّ ويطلق أصواتًا وخَشَخَشَةً كَقِطَّةٍ محصورةٍ في قبو مظلم تحت الركام.
في الجدار ساعةٌ متوقفةٌ عن الزمن، تشير إلى زمنٍ غير موجود...
جلس الرجل لكنه كان بغير وعيٍ وإدراك، حتى إنه كان يظنُّ نفسه واقفًا. في الحقيقة كان جالسًا على ذات الكرسي الخشبي، وكأنَّ الكرسي قرر أن يجلسه ويستضيفه دون نيةٍ مسبقة.
الكتابُ على الطاولة مفتوحٌ، صفحاتُه فارغةٌ إلا واحدةً كُتِبَ في بداية سطرها الأول وبخطٍّ عريضٍ داكن:
**"كلُّ ما في البيت يعود لمن أولُ مَن يدخله ويعيد ترتيبه"**.

في زاويةٍ من الغرفة ثمة بابٌ صغير. رآه فلم يثرِ اهتمامه أولَ وهلة، لكن ذاكرته – حَكَمَها استفهامٌ – أوقفته وأشارت لهذا الباب الصغير. تلبَّسَه الفضول، دنا وفتح الباب. انبعثت رطوبةٌ محشورةٌ في هواءٍ نَتِنٍ كأنه من ظلمةٍ مقيتة. نزل السلم خطوةً خطوةً، رآه سَوَادًا أولَ وهلة، لكنه تقدَّم وتَمعَّن... كان شيئًا آخر.

كان قبوًا لا يشبه الأقبية المعتادة، بل طيَّةَ أوراقٍ وصحائفَ وكتبِ نسيانٍ وخِبَاءٍ في أسفل البيت. سقفُه يشبه قفصَ صدرٍ متحجِّر، والجدرانُ ملاذاتٌ لحشراتٍ متوطنةٍ مفقودةٍ معالمها. أقبيةٌ مظلمةٌ لا شيءَ فيها غير سريرٍ قديمٍ، كأنه من عصرٍ زائلٍ، يحتفظ بأسرارٍ صامتةٍ لا تقوى على كلمة.
عاين المكان بدقةٍ غير معتادة. بدا يخطو خطواتٍ بتأنٍّ، لم يكن لأثرِ أقدامه سحابةُ ترابٍ، صامتًا بلا صوت. بل ما أسعفه الزمنُ وهمس باسم الرجل. ثم ازداد الهمسُ وصار صوتًا واضحًا، كأن الجدرانَ هي صاحبةُ الهمس القريب:
**"هذا المنزلُ القديم لم يُبْنَ ليسكنه آخرون، إنما يسكنه هو"**.
أَتَرَاكَ تشكُّ؟ المكانُ ليس بغريبٍ، أتحسبُ نفسك عائدًا؟ أنت هنا دائمًا، بملامح وجهك وجسمك. أنت مَن ترك المنزلَ ولم ترحل أو تُجبَر على المغادرة قط!

في الجوانب وعلى الجدران أقفالٌ كثيرةٌ صغيرة. حين فتح واحدًا منها، انفتح الجدارُ كسلمٍ طويلٍ أخرس، فيه كلامٌ طويلٌ لرواياتٍ لا تعنيه. خرج منه نداءٌ يبكي بصوتٍ يألفه حضورُ الذاكرة. ثم ثرثرةٌ ضاحكةٌ قريبةٌ حزينةٌ وقديمة...
رأى رسمَيْنِ بحبرٍ أسود: له كطفلٍ، ولرجلٍ يماثله في الطول والشكل، بيد أنه أقدمُ وأعمق، متجعدُ الوجه، ما زال صوب الاتجاه الأيسر. في إطار الرسم كان بصمةُ إبهامٍ مجهولةٍ فاقدةٍ لونِ الفحم، باهتةِ الألوان.
**"مَن كان يظنُّ أنه غادر، صار جسدًا وجهًا"**.

سأل المرأةَ التي واقفًا أمامها سؤالَ رجلٍ فاقدِ الحسِّ والانتماء، معلَّقٍ بين الحاضر والماضي والذكرى، حين شاهد وجوهًا تتحرك: أمه، طفلٌ بلا فم، امرأةٌ تبكي، ونفسه.
**"مَن أنتِ؟!"**
رغم الصمت قالت:
**"أنت الباقي المنسيّ حين رحلوا... وأنت هم مَن تذكَّرتهم. المنزلُ هو مَن يتعامل مع الذاكرة حين تهوى وتتآكل. وأنت تاريخٌ، ومِدادُك قلمٌ ولوحةُ إصلاح. أنت الذاكرةُ بتمامها"**.

البابُ مرسومٌ بالوهم: بابٌ من لوحٍ صاجيٍّ قاتمٍ، مخفيٌّ عند مستوى الرأس عند الجلوس، صغيرًا مواربًا في الجدار الأيسر من القبو، خلف قطعةِ قماشٍ جلديةٍ متآكلة. لاحظه متجانسًا من شدة الغبار المتراكم، بيد أنه شاهد ثقبًا أسودَ مميزًا في الوسط عند المنتصف. لامسه... فانفتح البابُ على مصراعيه لا على غرفةٍ، بل قبوٌ آخر، فيه في نهايته مرآةٌ كبيرةٌ ضخمةٌ تتمايل في عدة اتجاهات، تُصَوِّرُ لا تعكس.
دنا بخطواتٍ ثانيةٍ دون صوتٍ أو ضجيج... حيث المكان الذي لم يكن قبوًا ولا غرفة، بل أرضٌ جرداء، أرضُ رمادٍ، وسقفٌ محدودبٌ يحجب سماءً بلا لون. ومما لا يمكن إهماله: صوتٌ أشبعه المطرُ ثقلًا، يهمس بصوتٍ مبتلٍّ:
**"القبو الذي خافوا أن يدخلوه فيجدوا أنفسهم"**.

في المنتصف سريرٌ عاجيٌّ فيه جسدٌ ممدودٌ لرجلٍ بوجهٍ لا يختلف ولا يشبهه، وجهٌ يجمع بصماتَ كل الوجوه التي سقط عليها بصره عند دخوله وتأمله... هو مركبٌ.
عرف:
أنَّ هذا المنزل لا يمحو الماضي، بل هو ذكرياتٌ لا يحتفظ بها... إنما يخلقها. يرسم من نزلائه وجوهًا مرسومةً، صورًا بقلم الفحم الأسود لم تكن واضحةً، بل يخزنها.
**"أنت تعدُّ خطواتٍ متوقفةً لا تسير... انكشفت. المنزل عرفك وعرف أسرارك وغاياتك"**.

خانته الكلمات، وما عاد قادرًا على جمع الكلمات والإجابة. خرج... المنزل فقد ذاكرته، وعصى عليه الكلام، فلاذ بالصمت. غير أن مرآة القبو كتبت رسمًا آخرَ جديدًا لم يألفه من قبل.

المنزل لم يبدُ قديمًا من مظهره الخارجي كباقي منازل الحي، على الرغم من قدمه وآثار السنين. طلاؤه عليه آثارُ الغبار والأمطار والريح الجنوبية الملوثة. شبابيكه المغلقة حجبها التراب فبدت كأنها نصفُ مغلقة. وهدوءٌ حذرٌ ينبئ بأمطارٍ وعاصفةٍ ضبابية.
رجلٌ آخر واقفٌ أمام الباب، ربما عابرُ سبيلٍ أو عنوانٌ مزيفٌ أو هو فاقدٌ أثرَ شيءٍ. جاء ليسأل... لم يعرفه أغلبُ أهل الحي، ولا يعرفهم. هو أيضًا لا يعرف شيئًا، سوى أن هذا المنزل تركه أصحابُه، منزلٌ مهجور.
عرف من أحد ساكني المنزل المجاور:
**"هذا المنزل يفتح مرةً واحدةً، ولا يفتح عدة مرات أو مرةً أخرى"**.
مد يده للقفل، فتحه بالمقبض... الباب كان مواربًا.
في الداخل، في غرفة الاستقبال، تحرَّك رسمٌ مرسومٌ بقلم الفحم الأسود، تحرَّك يمينًا وشمالًا عدة مرات. الرسمُ هذا بلا وجه.
طَرَقَ سمعَه همسٌ قريب:
**"ادخل... المنزل يتذكَّر ضحكاتك من مُبْتَسِمٍ قبل أن تتذكره"**.
فتح الباب... ودخل.