نزع صاعق القنبلة المحرمة: العشيرة مظلة تعايش وقيم عالية ومسمار أمان لا مفخخة وأداة تجييش!



إبراهيم اليوسف
2025 / 7 / 18

نزع صاعق القنبلة المحرمة:
العشيرة مظلة تعايش وقيم عالية ومسمار أمان لا مفخخة وأداة تجييش!

إبراهيم اليوسف
ارتفعت وتيرة القلق مساء أمس، لا بسبب حدث ميداني جديد، بل نتيجة ما تفاجأنا به من بثوث مغرضة و سيول رقمية أغرقت الفيسبوك بإعلانات تعبئةٍ مسمومة، تنشرها صفحات كثيرة تزعم لنفسها تمثيلًا وهميًا للثورة، وسوريا، و للعشائر، وتقدّم أعدادًا فلكية على أنها جاهزة للزحف نحو مدينة السويداء. لم يكن الحديث عن عشرات أو مئات، بل عن "خمسين ألف مقاتل" من داخل البلاد وخارجها، ثم سرعان ما ارتفع الرقم كما يُنفخ بالونة، ليصل إلى مئات الآلاف وربما الملايين، وفق مزاج كل منشور وحرارة كل منشّن. منشورات تسوّق الحرب كأنها مهرجان أو أولمبياد، وتدعو إلى الهجوم كأنها دعوة عرس، حيث لا عريس إلا الدم، ولا قاعة إلا المدى المفتوح للمحرقة، لاسيما أن أكثر هؤلاء الفيسبوكيين يعيشون في أمان بعيداً عن ساحات الاقتتال.
وما أن نتابع تلك البثوث و المنشورات التي يقف خلفها بعضهم ممن يظنون أنفسهم خبراء استراتيجيين لمجرد امتلاكهم حسابات شخصية مجانية ومتابعين بالمئات أو الآلاف، حتى يتضح لنا أن العقل الجمعي الذي يُراد له أن يتشكّل هنا لا علاقة له بالدولة، ولا بوحدة البلاد، بل بسردية مضادة تضع المدينة هدفًا، والعشيرة التي وجدنا فيها موطناً للأخلاق العالية والقيم الحميدة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف سلاحًا، مجرد سلاح! والشارب عنوانًا للغزو الرمزي. إذ لم تكن لغة البث و الفيسبوك وشقيقاتهما وأشقائهما صادرة عن قلق على الوطن المقدس لدينا جميعاً، بل عن رغبة في النفث عن ثقافة أو ترجمة ثقافة ولى زمناها أو تصفية" ثارات" وهمية أو قديمة هالكة ومتهالكة، وإعادة ترميم شعور مهتز بالسيطرة عبر حشد مفردات الماضي.
حيث يعاد استدعاء مفردات تجاوزتها"العشيرة"، عبر وجهها الإيجابي، الذي بات يتعزز أكثر رغم الحرب عليها من السلطة ومن محاولي تحريف بوصلتها، ألا وهي:"الثأر"، "النجدة"، "النخوة"، "الكرّ"، "الزحف"، كي يُعاد تلقائيًا تعطيل مفردات الدولة الجامعة، وتجميد معاني القانون، وتحويل القضايا من تعقيدها السياسي والاجتماعي إلى بدائية لا تحتاج أكثر من: مقص، ماكينة حلاقة، وكاميرا جاهزة للتوثيق. تلك الأدوات التي ظهرت في يد المغيرين على المدينة، لم تكن عبثًا، بل كانت مدروسة كأدوات إذلالٍ رمزي، أراد أصحابها أن يمرغوا بها تاريخًا كاملاً في الطين، لأنهم أدركوا أن تقويض رمزية الشارب في ثقافة أهالي السويداءّ. أبناء الجبال أرومة، ليس إلا محاولة لاختراق النخاع الرمزي لصورة الرجل، لا جسده.
من هنا فإنه من العبث أن يتم تسويق هذا الحشد باعتباره عودة إلى الجذور، لأن من ينفخ نار العشيرة اليوم لا يفعل ذلك دفاعًا عن الكرامة، بل لوأد روابط الوطنية والمواطنة والإنسانية، إذ إن الكرامة التي يُراد استعادتها من بوابة السويداء يتم سحقها في كل قرية سورية أخرى باسم العائلة والطائفة والقبيلة. ما يُحاك ليس ردًّا على فعل، بل خطة تم تحضيرها منذ زمن، تكتمل عناصرها بإعلام مُعد سلفًا، وصفحات جاهزة للتكشير، فضائيات خليجية تتلقّف التصريحات كما تتلقف الأغبرة والسخام وأصوات أبواق الحرب.
وبدهي أن من يروّجون لهذا الحشد لا يرون في الوطن أكثر من ساحة تدريب على نشر وتكريس ثقافة الكراهية. أولئك الذين يحركون أصابعهم على شاشات الأجهزة، لا يخرجون من دبق وسم التحريض، بل يعيدون تشكيلهما في كل منشور. وهكذا تنتقل الفتنة من مقطع مصوّر إلى طقس تعبوي، من حادثة معزولة إلى خطاب يعمّم، ليبدو الأمر كأنما السويداء كلها قد أعلنت التمرد، والعشائر كلها قررت الرد.
انطلاقاً من كل هذه الخطوط العريضة الملحوظة، فإن المشهد برمّته لا ينفصل عن محاولة نزع رتبة الدولة من فوق كتفيها، عبر تغليب مرجعية العشيرة بوصفها الأحق بالرد، والأجدر بالهيمنة، والأكثر شرعية في اقتراح الحلول. الدولة هنا لا تُستدعى للحماية، بل يُطلب منها أن تقف على الحياد، حتى لا تكون في وجه "الأهل". هذا هو جوهر الانقلاب الرمزي الذي يتكئ عليه منظرو التعبئة. فالدم السوري لا يُقدَّم في خدمتهم، بل يُصفّى تحت خطاباتهم، ومَن يسقط من الطرفين لا يُبكى عليه، بل يُستخدم في مقاطع "التوثيق"، ويُوضَع في خدمة السردية التي يريدها هذا الطرف أو ذاك.
ولكل هذا فإننا نجد أن الصراع ليس حول السويداء كمكان، بل حول ما تمثله من رمزية طائفية، أخلاقية، واجتماعية. فالسعي لإخضاعها لا يرتبط بموقعها، بل بما تعلنه من مواقف، وما تمثله من استقلال في القرار، وما تعلّقه من وزن على الشرف الجماعي في زمنٍ تتهدّل فيه الرايات.
أجل، هكذا يتم تهميش الشهداء الأبرياء من الطرفين وتصفية الجرحى وتغيب الحقيقة خلف زغاريد الثأر، لا لأنهم من طائفة أو منطقة بل لأن الفتنة لا ترى فيهم إلا أوراقًا للبازار.للمساومة. إذ مات من الطرفين أناس لا ذنب لهم، وجرح من الطرفين مدنيون لا علاقة لهم بالزحف، ولا بالنداء، ولا بالأسماء التي حرّضت. ومع ذلك يُصرّ منظّرو الفيس على اعتبارهم ضريبة طبيعية، فيما يحق لأبطال المنشورات مواصلة التحريض، وكأن الفوضى مجرد هامش للتسلية.
إنما المؤلم أكثر هو مشهد المدينة وقد تحوّلت من ساحة رمزية للكرامة إلى ميدان للدم وآثار الحرب من دمار وركام وسخام بما يدعو للقول: ثمة جحافل وحوش مرت من هنا. السويداء التي قاومت بشجاعة، لا تملك الآن إلا أن تضمّد جراحها بوسائل بسيطة، لأن الدولة التي يُفترض بها أن تضمن لها الأمن، تبدو مترددة، وربما منحازة في صمتها المكره عليه. حيث ينهض السؤال هنا ليس عن الجهات التي تحرّض، بل عن الجهات التي تصمت، والتي تُفسح المجال لانفلات الخطاب، وانزلاق الكلمات، وتمدد الخوف من شاشة إلى شارع إلى ساحة معركة كلنا فيها خاسرون، في غياب الحكمة والعقل والأخلاق والإنسانية والقانون.
لوصلنا تسجيل صوتي لسائق من أبناء السويداء، بعد متابعتنا ليلة أمس حتى الفجر، في انتظار أنباء خيرة لكل السوريين، فكلهم لدينا سواء وأهل، وإن كره بعض منظري الفيس والبثوث ذلك، كان يجوب بسيارته في شوارع المدينة، صوته لا يحمل ضجيجًا، بل حزنًا كثيفًا. قال: "ها نحن نجول... لا أحد هنا... المدينة نائمة، أو حزينة، أو متوجسة. كل ما فيها منشغل بجرحه، بمستشفى فيه جريح من هنا وجريح من هناك...". هذه العبارات وحدها كافية لإيقاف كل منشور يزعم زحفًا، ونسف كل خرافة تُسوَّق عن معركة.
السائق لم يكن سياسياً ولا مذيعاً، لكنه قال ما لم تقله كل صفحات التعبئة: الطرفان ينزفان، والطرفان أهلنا، والقذيفة أو الرصاص لا يفرّقان حين يقعان، والجرح لا يُشفى حين يُكذّب.
من هنا، تماماً، فإن التهديد الأكبر ليس فيمن يزحف، بل في من يفكك البنية المشتركة للبلد عبر تحويل كل محافظة إلى هدف محتمل، وكل طائفة إلى كيان مستقل، وكل عشيرة إلى حزب مسلّح. هذا هو الخطر الأعظم: حين تتآكل الدولة من داخلها، ويُقدَّم البديل عنها كعشيرة مسلّحة، أو طائفة مجيَّشة، أو قبيلة مستنفرة. هؤلاء لا يسوغون الرد، بل يشرّعون الإلغاء. الدولة لا تقف، حين تقف العشائر بدلًا عنها، بل تنزاح جانبًا لتترك للأقوى السيطرة.
إذ تتكرّر محاولات استدعاء العشيرة التي نملك في ثقافتنا تصورات جد جميلة عن أخلاقها ودورها الجامع خارج ما يراد لها من مهمات خوض وزج، كورقة تدمير أخيرة في الداخل السوري، بعد أن تكرّس الإخفاق، لأن إيغار صدر الدولة من قبل أية جهة كي تفوض العائلة والعشيرة بأداء دور الحماية، فهي تنطلق من اعترافها ضمنًا بعجزها، وتُعلن استقالتها الرمزية من مسؤولياتها، وتطلق عليها النار. إذ لا ينبغي على السلطة فعلاً أن تُترك جغرافيا الوطن لكل من يملك منشارًا ومقصًا وأداة بث؟
الفتنة ليست بثاً انفعالياً تحريضياً غير مسؤول ولا خطابًا فيسبوكياً عابرًا، بل صورة وطن عزيز ينهار. وإن سُمح له أن ينهار الآن في السويداء، فسيسقط في كل زاوية لاحقة من البلد، لأن المعنى المتروك هنا سيصبح سابقة هناك. حين يتم التحريض أو الصمت عن اقتحام مدينة بدافع عشائري، سيُصبح هذا النمط قاعدة، لا استثناء.
حيث يتحدث المهووسون بالحشد عن مدد عشائري من العراق ولبنان والأردن، فلا يسألون أنفسهم عن امتدادات الآخرين. فهل الكرد أقلّ عراقة في الامتداد؟ وهل الدروز بلا امتداد في فلسطين والأردن؟ وهل العلويون لا جذور لهم في الشمال اللبناني أو الداخل التركي؟ فلتُفتح هذه البوابات إذن، ولنرَ ما الذي يبقى من البلد حين تتحول كل مجموعة إلى شتات مسلّح، وكل جرح إلى ثأر لا يُروى.
إن الدولة، بمؤسساتها، بعد نبذ الأيديولوجيا الضيقة واعتماد تعددية أبناء وبنات الوطن هي وحدها المخولة بحماية الناس، لا بعزلهم عن بعضهم، ولا بتأجيج الطوائف لتواجه بعضها بعضاً. وإن كانت هناك دعوة أخيرة، فهي لأن تستعيد الدولة مكانتها، لا بالصوت العالي، أو استحصال الشرعية من الخارج دولياً أو عربياً أو إسلامياً، بل من الوطن. من لوحة الفسيفساء السوري. لا من اللون الواحد، بما يمكنها من امتلاك أعظم قوة وليس عبر إعلام، زائف وإعلاميين وأشباه إعلاميين مرتزقة طلاب رواتب ومراتب بل عبر القانون. لا برفع الأعلام، بل بترسيخ العدالة. وكل ما عدا ذلك لعب بالرماد فوق النار.
السويداء اليوم لا تطلب الحماية من خصم، بل من ضمير علينا تمثله كما كل شبر من أرض الوطن. كل جرح كل حلم، وليس عبر وهم السوبرمانية الذي يكرس اعتمادا على سرديات ملفقة. هذا الوهم الذي يريد تصويرها كجبهة، وهي ليست كذلك. من هذا الوهم الذي يحشد الجموع، وهي لم تطلب زحفًا ولا عزوة. السويداء تطلب شيئًا أبسط: أن تُترك لترتب دماءها، وتعيد دفن شهدائها، وتضمد جراح أبنائها، وأبناء المهاجمين معًا، لأن الجرح واحد، والرصاصة لا تسأل عن الهوية حين تخترق.