![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
الشهبي أحمد
!--a>
2025 / 7 / 19
لا شيء يحدث فجأة. كل رقم صادم هو تتويج صامت لمجموعة من التحوّلات التي جرت دون أن ينتبه لها أحد، أو لعلّنا جميعاً كنا نراها، لكننا لم نكن نملك الشجاعة الكافية لنطرح الأسئلة المحرجة. تخبرنا الأرقام، ببرودةٍ مدهشة، أن أكثر من 3 ملايين و600 ألف امرأة مغربية تجاوزن الثلاثين دون زواج. رقمٌ ليس عادياً، ولا يمكن تطبيعه بسهولة كما يفعل البعض حين يختزل المسألة في عبارة «الزواج ليس شرطًا للسعادة». نحن لا نتحدث عن السعادة هنا، بل عن تحوّلات اجتماعية عميقة تضرب في صميم الأسرة المغربية، وتُعيد تشكيل معنى الأنوثة، ومعنى الرجولة، ومعنى العلاقة بين الجنسين، كل ذلك تحت لافتات ملونة: استقلالية، حرية، تمكين، مساواة... لكن هل نعرف الثمن الحقيقي لكل هذا؟
في العقود الأخيرة، دخل الفكر النسوي إلى بيوت المغاربة بصمت، من خلف الشاشات ومن داخل المدارس وفي البرامج والدورات التدريبية والمبادرات الممولة. نسوية لا تشبه تلك التي نشأت في الغرب ضد واقع كان يحرم المرأة من التعليم والعمل والكرامة، بل نسوية هجينة، استوردناها دون أن نترجمها لخصوصيتنا، ولم نناقشها في عمقها، بل تماهينا معها كما لو كانت دينًا جديدًا يحمل الخلاص. هكذا صار الحديث عن الزواج يبدو في بعض الأوساط كنوع من الهزيمة، وصار الرجل يوصف بأنه عائق أمام “تحقيق الذات”، وأنه لا يصلح إلا إذا كان “يدعم مسيرتي” و”يؤمن بأفكاري” ويقبل أن يكون "شريكاً ناعماً لا قائدًا متسلطًا".
أصبح بعض النسوة يرفعن شعاراتهن كما لو كنّ في معركة مفتوحة مع الذكر، لا مع واقعهن. صار الرجل يُختزل في لائحة شروط مادية وذهنية ومعرفية تُستعصى على أكثر الرجال واقعية، وبات الزواج مشروعًا مؤجلاً إلى أن "أبني نفسي"، "أحقق ذاتي"، "أسافر وأجرب وأعيش"، إلى أن "أجد الشخص المناسب"، الذي غالباً ما يُصاغ وفق مواصفات لا وجود لها إلا في المسلسلات أو كتب التنمية البشرية. وحين تمر السنوات، ويحين موعد الحقيقة، يكون الوقت قد سرق من العمر لحظاتٍ لم يكن ينبغي لها أن تضيع.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بخطابٍ نسوي نشاز، بل بتواطؤ جماعي. الدولة التي تسوّق للتمكين، لا تسأل نفسها ماذا فعلت لإعداد بيئة تحفّز على الزواج وتكوين الأسرة. المنظومة التعليمية لا تربي على قيم الحوار بين الجنسين، بل تنشئ كائنات مفصولة عن واقعها العاطفي والاجتماعي. الإعلام يكرّس صورة المرأة المستقلة القوية الصلبة التي لا تحتاج أحداً، وفي المقابل يرسم صورة رجل تائه، إما متسلط أو مستسلم، لا يعرف كيف يتواصل، ولا كيف يعبّر، ولا كيف يكون شريكاً حقيقياً.
هذا التضخم العددي للنساء غير المتزوجات بعد سن الثلاثين ليس حكماً أخلاقياً، بل سؤال اجتماعي: ماذا وقع؟ ولماذا تراجع الزواج من أولوية حياتية إلى هامش مؤجل في جدول الطموحات؟ ليست كل النساء راغبات في الزواج، صحيح، لكن أكثر من ثلاثة ملايين رقم أكبر من أن يُختزل في "حرية الاختيار". إنه مؤشر على خلل، على انفصال تدريجي بين النساء والرجال، على تآكل الثقة بين الطرفين، وعلى نوعٍ جديد من الوحدة المغلفة بخطابات براقة.
من المؤلم أن ترى نساءً في عمر النضج العاطفي، يخفين خيباتهن خلف جُمل منمقة: "الزواج قدر"، "أنا لا أحتاج رجلاً لأكون مكتملة"، "العزوبية حرية"، لكن من يقترب كفاية من جراحهن، يدرك أن الكلام لا يشفي، وأن السنين حين تمضي دون حب، دون دفء، دون أُنس، لا يعوّضها راتب ولا سفر ولا شهادة. ومن القاسي أيضًا أن ترى رجالاً انسحبوا بصمت، غير قادرين على مجاراة خطاب التمكين، غير راغبين في خوض علاقة قائمة على الشك المتبادل، أو على منافسة ناعمة بين اثنين يحسبان كل شيء.
المجتمع المغربي يعيش مرحلة انتقالية غامضة، لا هو حافظ على تقاليده، ولا هو أسّس لحداثة إنسانية متوازنة. النساء يُحمَّلن أعباء التحرر دون حماية، والرجال يُطالبون بالتغيّر دون تأهيل. نُفرّط في العلاقات، ثم نتباكى على العزلة. نُهاجم الزواج، ثم نُحصي خسائرنا بعد فوات الأوان. وحدها الأيام، في صمتها الصادق، تكشف لنا أن لا شيء يعوّض الإنسان عن دفء العلاقة الإنسانية السليمة، عن أن يكون محبوبًا، مرئيًا، مهمًا في حياة أحدهم.
الرقم ليس مجرد إحصاء. إنه جرس إنذار. ليس لجلد المرأة، ولا لاتهام الرجل، بل لنراجع جميعًا ما الذي يحدث حين نسمح لأفكار غريبة أن تقودنا كقطيع دون أن نفكر في ثمن الطريق. حرية المرأة ليست في كُره الرجل، وكرامة الرجل لا تُبنى على تهميش المرأة. وحدها العلاقة التي تُبنى على المودة والرحمة والحوار، يمكنها أن تنقذ ما تبقى من هذا الركام الذي نُسميه: واقعًا.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|