رصد الأبعاد غير المرئية في العلاقات الدولية: السلطة الناعمة والخطاب كأدوات خفية للهيمنة



فاروق محمد الشاوي
2025 / 7 / 26

مقدمة

في عالم العلاقات الدولية، لم تعد القوة الصلبة وحدها قادرة على تفسير سلوك الدول أو نتائج التحولات السياسية الكبرى. فهناك أبعاد غير مرئية - كالقوة الناعمة، وأنظمة الخطاب، والتحكم بالمعلومات - تسهم في تشكيل المشهد الدولي بعمق، دون أن تُقاس بجيوش أو تحالفات فقط. هذه الأبعاد "الخفية" لا تقل تأثيرًا عن الصراعات العسكرية والاقتصادية، بل تتجاوزها أحيانًا.

أولاً: القوة الناعمة كأداة للتأثير غير المباشر

ابتكر جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة ليصف قدرة الدول على الإقناع بدل الإكراه، عبر الثقافة، والقيم، والسياسات الجذابة. لكن هذه القوة ليست دائمًا بريئة، إذ يمكن توظيفها لأهداف استراتيجية خفية: نشر نماذج سياسية محددة، أو دعم قوى محلية متوافقة مع مصالح الدول الكبرى، أو إعادة إنتاج الهيمنة بصيغ رمزية.

مثال على ذلك: استخدام وسائل الإعلام الغربية لتشكيل وعي عالمي حول قضايا مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، أو الإرهاب، مما يؤثر على القرارات السياسية الداخلية في دول الجنوب دون تدخل مباشر.

ثانيًا: الخطاب كأداة لإنتاج "الواقع" السياسي

تُظهر الدراسات النقدية أن الخطاب السياسي لا يعكس الواقع، بل يُنتجه. فطريقة الحديث عن دولة ما (كأن تُوصف بأنها "راعية للإرهاب" أو "محور الشر") تغيّر شكل العلاقات معها دوليًا، وتبرّر ممارسات قد تكون مرفوضة أخلاقيًا.

التحليل الخطابي يُظهر كيف تُبنى "الشرعية" أو "الشيطنة" عبر اللغة، وكيف يُعاد ترتيب الأولويات الأمنية وفقًا لتصورات تُصنع في مراكز أبحاث وقنوات إعلامية، ثم تتحول إلى "حقائق".


ثالثًا: التكنولوجيا والمراقبة في العلاقات الدولية

التوسع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والمراقبة أوجد طبقة جديدة من القوة الخفية. لم تعد السيطرة تعني فقط السيطرة على الأرض، بل على البيانات. من يتحكم بالاتصالات والمعلومات يملك قدرة على التأثير في سلوك الشعوب والأنظمة، حتى دون أن يُرى.

الدول الكبرى تستخدم شركات التكنولوجيا الكبرى كوسائط نفوذ ناعم، بينما تتحول البنية الرقمية إلى ساحة صراع سياسي (Cyber Diplomacy)، كما نرى في النزاع الأميركي-الصيني حول شبكات الجيل الخامس.

رابعًا: الرموز والبُعد الثقافي للهُوية السياسية

جزء من النفوذ غير المرئي يتم عبر "صناعة الرموز" وربطها بالسيادة والشرعية. من يملك السردية يملك التأثير. في هذا السياق، لا تُعد المساعدات الإنسانية أو اتفاقيات التجارة أدوات اقتصادية فقط، بل تحمل رمزية تحدد مَن "الراعي" ومَن "التابع".

حتى رموز مثل العلم، اللغة، أو الروايات التاريخية تُستخدم ضمن صراع "التمثيل الدولي"، كما حدث في النزاعات الإفريقية أو في البلقان.

---
خامسًا: البحر الأحمر نموذجًا للصراع غير المرئي

في البحر الأحمر، مثلًا، يتركز الصراع بين القوى الكبرى على موانئ، وجزر، وممرات مائية، لكن تحت السطح يدور صراع ناعم على النفوذ الإعلامي، وتوظيف القبائل، ومراقبة الأنظمة السياسية عبر أدوات إلكترونية، وتحالفات اقتصادية تبدو تنموية ولكنها استراتيجية.

إسرائيل، والإمارات، وتركيا، وحتى الصين، تنشط بقوة في تلك المنطقة، ليس فقط لتأمين الممرات البحرية بل لتثبيت حضور غير مرئي طويل الأمد في القرار السياسي المحلي.

خاتمة

إن رصد الأبعاد غير المرئية في العلاقات الدولية لم يعد ترفًا تحليليًا، بل ضرورة لفهم عالم معقّد تتداخل فيه القوة الرمزية مع الواقعية السياسية. إن من يكتفي برؤية "الظاهر" سيغفل جوهر التحولات. في هذا العالم المتحوّل، لا تكفي الجيوش ولا العقوبات، بل يجب فهم كيف يُعاد تشكيل النفوذ عبر اللغة، الثقافة، التقنية، والمعلومات.