نبوية موسى - رائدة تعليم الفتيات في مصر في القرن العشرين



شيماء الشريف
2025 / 8 / 7

يندهش المرء كثيرا، وقد أتممنا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، عند مطالعة سيرة المربية الفاضلة والمعلمة المتميزة السيدة نبوية موسى؛ فنحن في عصر حصلت فيه المرأة على جميع حقوقها الخاصة بالتعليم والعمل والترقي وشغل أرفع المناصب العامة وحيازة الملكية والحق في الميراث وغير ذلك من الحقوق، وقد لا تتصور فتاة من بناتنا في هذه الأيام إنه منذ مائة عام أو يزيد، كان حق التعليم للفتاة محدودا أو معدوما، وكان حق العمل عارا، وكان حق اختيار الزوج عيبا!

ومن هنا تأتي الدهشة عند مطالعة السيرة العامرة لنبوية موسى، إذ نجد أنفسنا أمام فتاة من الفولاذ، نبتت وسط مجتمع ذكوري بكل ما تعني الكلمة من معنى، مجتمع تسوقه قوى الاحتلال البريطاني، وتسيطر على جنباته ومقدراته. كانت الفتاة نبتة ضعيفة في بدايتها؛ فقد تغيب الأب، اليوزباشي موسى محمد بدوية، الضابط في الجيش المصري، قبل ميلادها بشهرين، في حرب لم يعد منها، فولدت في 17 ديسمبر 1886 ونشأت وعاشت يتيمة، لم تعرف أباها إلا من حكايات أمها وأخيها عنه، وكانوا جميعا يعيشون في الشرقية، ثم انتقلوا إلى القاهرة.

لكنها كفتاة، كانت بها جذوة مختلفة عن مثيلاتها، فقد كانت تميل إلى العلم والتعلم، وقد لاحظ أخوها هذا الميل لديها، فشجعها، وتولى بنفسه تعليمها القراءة والكتابة في المنزل، وساعدها أيضا في تعلم بعض قواعد الحساب، وعندما بلغت الثالثة عشرة تقريبا، كانت قد اتخذت قرارها بالالتحاق بالمدرسة السنية، وكان هذا وقتها أمرا غير محمود وغير محبذ على الإطلاق، فالخروج اليومي للفتاة من بيتها بحجة التعلم كان أمرا مذموما ومرفوضا، وكم من فتاة من مثيلاتها كن يكتفين بتعلم مبادئ القراءة والكتابة في البيت، ثم يتزوجن فورا بعد ذلك.

لكن نبوية موسى كان لها أهداف أخرى أعلى وأبعد بكثير من الزواج والإنجاب، كانت تحلم ليس فقط بأن تتعلم هي نفسها، وأن تعمل وتستقل بدخلها، ولكن أن تساهم وتدعم تعليم بنات مصر جميعهن، حتى إنه كان لها رأيٌ سلبيٌ في الزواج ألزمت به نفسها وطبقته طوال حياتها، كان هذا الرأي يتلخص في نظرة المجتمع إلى الزواج ونظرة الرجل إلى المرأة، والتي تقوم كلها على المظاهر والشكليات والهيئة الجسدية للفتاة، وأن الزواج ما هو إلا تفريغ شهوة الرجل في المرأة! وقد رفضت نبوية موسى هذه النظرة نهائيا بإعلانها الشجاع بأنها ليست جميلة، وأنها سترسل صورتها لكل من يتقدم إليها بالزواج حتى تجبره على أن يغير رأيه! وكان هذا الموقف حتى يتعامل الجميع مع عقلها أولا دون النظر نهائيا إلى شكلها.

وقد صممت نبوية موسى على الحصول على البكالوريا التي كانت حكرا على الذكور فقط، وذلك بعد أن تقدمت رسميا بطلب للالتحاق بها إلى وزارة المعارف، وقد كانت بالفعل أول فتاة في تاريخ مصر تحصل على هذه الشهادة عام 1907، وكان ذلك حدثا مدويا في هذا الوقت، ثم حصلت على دبلوم المعلمات عام 1908، مما أهَّلها أن تصبح معلمة، فعينتها الحكومة المصرية معلمة للغة العربية في المدارس التابعة لها، فقامت ضدها عواصف هوجاء من خريجي دار العلوم الذين كانوا يرون تدريس اللغة العربية حكرا عليهم وحدهم، ولم تسلم نبوية موسى وقتها من إطلاق كافة المساوئ عليها وعلى رأسها لقب "هادمة بيوت الرجال وقاطعة أرزاقهم"، هذا بخلاف الدسائس ضدها عند السلطات البريطانية لأنها كانت تكتب مقالات توعوية في الصحف عن التعليم وعن حرية الإنسان، بتوقيع "ضميرٌ حي في جسم رقيق"، فتم استخدام هذه المقالات ضدها واتهامها بأنها مناوئة لسلطات الاحتلال البريطاني.

وقد جابهت نبوية موسى كل هذه الحروب الشعواء التي طاردتها في كل الأماكن التي عملت بها كمعلمة وكأول ناظرة مدرسة وكأول مفتشة على التعليم في محافظات القاهرة والمنصورة والفيوم وغيرها، بشخصية فولاذية قوية وصامدة، واستخدمت كل إمكانياتها العقلية والمادية لتنفذ مبتغاها الأكبر، وهو توسيع رقعة تعلم الفتيات، ومنحهن حقهن في التعلم والعمل، وشق طريقهن في الحياة بأنفسهن.

ورُب ضارة نافعة، فقد كان غضب المفتش الإنجليزي في وزارة المعارف المصرية على نبوية موسى سببا لوقفها عن العمل عام 1920 ومنحها إجازة مفتوحة مدفوعة الأجر، استغلت نبوية موسى هذه الإجازة، فسافرت إلى الإسكندرية، ونجحت بالاتفاق مع أعضاء جمعية "ترقية الفتاة" في تأسيس مدرسة ابتدائية حرة للبنات في الإسكندرية تولت إدارتها، وأثبتت كفاءة ونجاحًا كبيرين. وكبرت المدرسة وأصبحت سلسلة من المدارس، في الإسكندرية والقاهرة، أُطلق عليها مدارس الأشراف، وصارت هذه المدارس جميعها تحت إشراف نبوية موسى، وتسير وفقا لتوجيهاتها وتعليماتها، فصار لها صدى عظيما، وأصبحت تنافس المدارس التي تشرف عليها وزارة المعارف.

إلى جانب إدارتها للمدارس، قامت نبوية موسى بإنشاء مطبعة، ومجلة أسبوعية نسائية باسم "الفتاة"، كما شاركت في كثير من المؤتمرات التربوية، وقد شاركت في تأسيس الاتحاد النسائي المصري، والعديد من الجمعيات النسائية في مصر، كما أن لها بعض المؤلفات الدراسية التي قررتها وزارة المعارف في هذا الوقت. وكان لنبوية موسى نشاط اجتماعي كبير من خلال الجمعيات والمؤتمرات النسائية على المستويين المحلي والدولي. وأيضا قامت بتأليف مسرحيتها التاريخية الوحيدة "نوب حتب أو الفضيلة المضطهدة"، كما أنه كان لها إنتاج شعري متميز.

وقد يختلف البعض مع بعض التوجهات الفكرية لنبوية موسى، فقد يرى البعض إنها كانت متزمتة إلى حد ما في بعض أفكارها وفي مظهرها، وقد يرى البعض الآخر إنها كانت ذات موقف سياسي متأرجح أو غير واضح، فأحيانا تظهر تعاطفا مع الحركة الوطنية، وأحيانا تجامل الإنجليز. في نهاية المطاف، هي إنسانة تصيب وتخطيء، وقد عاشت حياة صعبة كلها معوقات وتحديات، وكانت شخصية عامة ومؤثرة، فمن الطبيعي أن نسمع أصواتا تدعمها وتمدحها، وأصواتا أخرى تعترض عليها. لكن في نهاية الأمر، لا ينكر عاقل دورها الفعال في دفع مسيرة تعلم الفتيات في مصر في القرن العشرين، وحثهن على العمل، وعلى المشاركة في الحياة العامة، وهو دور رائد قررته بنفسها، وأخذته على عاتقها، دون أن يكلفها به أحد، ودون أن يطلبه منها أحد.

رحلت نبوية موسى في 30 إبريل 1951، تاركة وراءها إرثا خالدا، لازالت المرأة في مصر تذكره لها، وتشكرها عليه.