![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
عزالدين جباري
!--a>
2025 / 8 / 8
تمهيد:
أثارت الكاتبة التونسية ألفت يوسف تساؤلًا مشروعًا حين نقلت عن الغزالي تصويره لعقد النكاح بأنه عقد بيع، ثم استحضرت – في سياق نقدها – مفهوم اللامفكر فيه عند محمد أركون، لتشير إلى أن كثيرًا من معاييرنا المعاصرة لم تكن ممكنة التصور أصلًا في زمن الغزالي، سواء تعلق الأمر بمسألة التعدد، أو تزويج القاصرات، أو غيرهما من الممارسات التي لم "تُجرَّم" شرعًا ولا عرفًا إلا في العصر الحديث.
ولعل أوّل ما ينبغي توضيحه هنا أن موقف الكاتبة لا يُنكر على الغزالي اجتهاده، ولا يجرّمه، بل يُشكّك فقط في سلطة إلزامه للحاضر.
وهذا الموقف – في جوهره – دعوة إلى الرفع الحافظ " aufhebung " لما مضى: لا قطيعة مع التراث، ولا تقديسًا له، بل استبقاءٌ للهيئة الإجرائية حيث تنفع، وارتقاءٌ بالمعنى حيث يَسمو الفهم.
1. بين "النكاح" و"الرباط": مفارقة التاريخ والمقصد
في قوله بأن النكاح "تمليك بُضْعِ بعِوَضٍ، يفيد ملك الاستمتاع كما أن البيع يفيد ملك العين"، لم يكن يتحدث عن كرامة المرأة أو عن قدسية العلاقة، بقدر ما كان يتحدث عن الصيغة العقْدية المجردة. ومن حقه – كفقيه يتدبر في أحوال عصره – أن يضع التوصيف الذي يراه صورةً صحيحة في إطاره الثقافي والمعرفي.
لكن من واجبنا اليوم أن نسأل:
هل ما يُعدّ "عقلانيًا" في قرنٍ مضى، لا يزال "معقولًا" في وعينا الحاضر؟
هل يجوز لنا أن ننقل بنية الفهم نفسها دون رفعٍ أو تحوير؟
هنا تظهر أهمية التأويل الصيروري: فالعلاقة الزوجية ليست معطى قارًّا، بل هي ظاهرة متغيرة تترنّح بين إباحة المتعة وتنظيم الغريزة وبناء السكنى. ومن ثَمّ، فقراءتها في كل زمن تقتضي تجديدًا في المعنى لا يلغي الأصل بل يرفعه رفعًا حافظًا للمقصد.
2. استدعاء "اللامفكر فيه": حين يكشف الحاضر عما كان مستحيلًا تصوره
حين تحدّث أركون عن اللامفكر فيه (l’impensé)، قصد به ما لم يكن ممكنًا التفكير فيه ضمن حقل معرفي أو ثقافي معين، في عصر قد يقصر أو يمتد. فهناك أفق صلب يحول دون انبثاق معانٍ أو مفاهيم معينة، حتى لو بدت اليوم بدهيةً.
• لم يكن من الممكن، في زمن الغزالي، تصور أن تزويج الطفلات جريمة، بل كان مألوفًا ومباحًا في ثقافات سائر الأمم.
• ولم يكن من الممكن تخيّل أن التعدد قد يثير سؤالًا أخلاقيًا عن العدالة الشعورية، وليس فقط عن النفقة والمبيت.
• ولم يكن واردًا أن تُطرح العلاقة الزوجية على أنها شراكة متكافئة في الوجود والمعنى والقرار.
• أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أعادت هيكلة بنى المجتمعات في سائر المعمور قد تصيب عمق مفهوم القِوامة بالتحول.
لكن تحوّل الوعي، وتغير بنية المعنى، أخرجت هذه المفاهيم من "اللامفكر فيه" إلى ممكنات خطابية وحقوقية تُحتِّم على المجتهد أن يُعيد ترتيب المعايير، لا أن يظل سجينًا لصيغ أُنتجت في سياق مختلف جذريًا.
وهنا، لا يُعدّ الغزالي مخطئًا، بل نحن المخطئون إذا أصررنا على استنساخ منطقه دون نظر في مقصديته التاريخية.
3. نحو فهم متجدد للعلاقة: من العقد إلى المعنى
حين يُسمّى العقد بعقد نكاح فذلك لتمييزه عن باقي العقود المدنية أو الاجتماعية. وهو بالفعل – كما قلنا من قبل – عقد استحلال، يُنظّم الإباحة الشرعية لعلاقة جنسية بين رجل وامرأة، ويُخرجها من دائرة الحرام أو السفاح أو الزنا. وهذا ما أبرزه الغزالي حين قال:
"فهو من حيث الصورة عقد معاوضة، يفيد ملك الاستمتاع كما أن البيع يفيد ملك العين، والإجارة تفيد ملك المنفعة."
وهذه الصورة تُبيّن أن مقصود العقد الأصلي هو تنظيم إشباع الغريزة داخل نسق شرعي منظّم.
فالعقد بهذا اللِّحاظ يُنظّم الحق في الاستمتاع، ولا يُنتج المودّة أو يصنع السكنى بالضرورة.
فما يُؤسّس بالعقد هو الإباحة، أما الكرامة والاشتراك الوجداني والتمكين المتبادل، فهي إمكانات أخلاقية تُبنى ولا تُستحق بمجرد إبرام العقد.
ولذلك، فإن ما تدعو إليه الكاتبة ليس إلغاء البعد الشرعي للعلاقة الزوجية، بل تأويله تأويلا معاصرًا في ضوء الكرامة الإنسانية الإنسانية الحديثة، بما لا يُلغي فقه النكاح، ولكن بحيث يرفعه إلى مستوى الرباط، كما في قوله تعالى:
﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]
وهذا الميثاق لا يُفسَّر اليوم من خلال أدوات الأمس ذاتها، ولا يُحمَل على المآلات نفسها، لأن المعنى نفسه صار متحولًا بفعل التاريخ، لا بفعل هوى مُطاع.
4. اجتهاد الغزالي بين الثبات والتحوّل
إن ما قاله الغزالي عن النكاح ليس اجتهادًا منقضي الصلاحية، بل هو اجتهاد دائم من جهة ملامستُه لأصل العقد في الشريعة: استحلال الفروج في إطار مشروع يحقق مقاصد الشريعة ويحفظ الأنساب والعِرض.
فمن حيث صورة العقد، ما زال هذا المعنى ساريًا وثابتًا.
لكن من حيث الوجدان الإنساني ومعاني العلاقة الزوجية، فقد تراكمت دلالات أخرى لم يكن الفقه معنِيًّا بتوصيفها ولا مطالبًا بضبطها:
لم يكن الفقه يتحدث عن الحب اللامشروط، ولا عن التوافق الذوقي، ولا عن صداقة الأرواح. ذلك أنه ببساطة، رجل قانون لا فيلسوف معنى، غايته تأمين الحد الأدنى من الحقوق في إطار الكليات الشرعية.
لكن هذه التحولات الشعورية والرمزية، تُلزمنا اليوم – لا بتقويض الفقه – وإنما بتأويله في ضوء متغيرات الوعي الإنساني.
فمن هنا، نُدرك أن:
الاجتهاد الشرعي يضبط الصورة،
والاجتهاد التأويلي يضيء المعنى،
وبينهما يتولد الرباط في صيرورته الأخلاقية والوجدانية،
فلا تُستباح الأجساد إلا بعهد، ولا تُستدرج القلوب إلى رومانسيات مُعلَّبة، بل يُراعى الرباط في أفق من المودّة والكرامة.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|