طفلات أمهات… و”عبقرية” التشريع



نورس حسين علوان
2025 / 8 / 21

نراها تسحب طفلتها الصغيرة بيدها، بينما لا تزال هي نفسها طفلة. سجى، ذات الستة عشر عامًا، مطلقة وأم لطفلة. تروي لنا حكايتها كيف أُخبرت في الثانية عشرة أنها “عروس”، وكيف أغروها بالملابس الجديدة والمكياج، دون أن تدرك أن وراء تلك الزينة دفنًا لطفولتها. سرعان ما وجدت نفسها زوجة لرجل يكبرها بخمسة عشر عامًا، ثم أمًا، ثم مطلقة، والدموع ما تزال تسكن وجنتيها..
وفي زاوية أخرى، نسمع قصة سرى ذات الأربعة عشر عامًا، اليتيمة التي أجبرها أعمامها على الزواج من رجل متزوج بثلاث نساء، لأنها بالنسبة لهم “عبء”. بعد وفاة زوجها، طُردت من بيته، ولم تستطع حتى إثبات زواجها أو المطالبة بحقها في الإرث لان عقد زواجها غير مسجل بشكل قانوني بل هو عقد شرعي للتحايل وتزويج الصغيرات ، لتتحول إلى بائعة خضار تعيل نفسها وتدافع عن طفولتها المهدورة ولكي لا يزوجها اعمامها مرة اخرى .
هاتان الحكايتان ليستا استثناءً، بل جزء من مشهد واسع لظاهرة زواج القاصرات في العراق. الأطباء يؤكدون أن أجساد الفتيات القاصرات لا تحتمل الحمل والولادة، والمحامون يشيرون إلى ارتفاع نسب دعاوى إثبات الزواج بنسبة 25٪ خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى تزايد حالات طلاق القاصرات، ما ينتج عنه “طفلات مسؤولات عن أطفال”.
قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم (188) لسنة 1959 في مادته السابعة يشترط الأهلية والعقل لإتمام الزواج، لكنه يفتح ثغرة خطيرة بالسماح بزواج من أكمل الخامسة عشرة بموافقة المحكمة وولي الأمر. أما من هن دون الخامسة عشرة فيُمنعن من التسجيل رسميًا، لكن الواقع يختلف: تزويج خارج المحاكم، عقود شرعية ، ثم محاولات لاحقة لإثبات الزواج أو الطلاق أو نسب الأطفال.الأخطر من ذلك أنه لا توجد عقوبة رادعة بحق من يزوّج طفلة، وكأن القانون يغضّ الطرف عن انتهاك الطفولة.
الظاهرة ليست فقط نتاج فراغ قانوني، بل أيضًا نتيجة ثقافة اجتماعية تعتبر الفتاة عبئًا اقتصاديًا وعار يجب التخلص منه بالزواج المبكر. فمع غياب فرص العمل، وإجبار الفتيات على ترك التعليم، تصبح الطفلة ضحية مرتين: مرة حين تُنتزع من مقاعد الدراسة، ومرة حين تُزجّ في علاقة زواج غير متكافئة، لتخرج بعدها مطلقة بلا تعليم ولا مهارات، عرضة للاستغلال والتحرش، وفي بلد لا يوفر سوى إعانات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع.
المفارقة الموجعة أن بعض النواب يرون الحل في تعديل قانون الأحوال الشخصية بحيث اصبح تزويج القاصرات قانونيًا وفق المذاهب. بعبارة أخرى: بدل معالجة الانتهاك، شرعنوه ! والأسوأ أن هذا التعديل مرّ بأصوات نواب بينهم نساء، وبمباركة لجنة “حقوق الإنسان” النيابية نفسها !
لسنا أمام مجرد قصص فردية؛ نحن أمام منظومة قانونية واجتماعية تنتج “أمهات طفلات” في دائرة مغلقة من الفقر والحرمان والوصاية. المشكلة ليست في سجى ولا في سرى، بل في من يعتبر أن الطفولة يمكن أن تُختصر في عقد زواج، وفي دولة تسنّ قوانين تحمي الأعراف بدل أن تحمي الإنسان.
فأي حقوق إنسان نتحدث عنها، وأي طفولة تبقى في وطن يصفّق مشرّعوه لـ”عبقرية” شرعنة زواج القاصرات