![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
محفوظ بجاوي
!--a>
2025 / 8 / 26
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت ألمانيا جرحًا مفتوحًا في قلب أوروبا؛ أرضٌ محروقة، مدنٌ مدمَّرة، اقتصاد منهار، وشعب مثقل بالخسائر والمآسي. ثلث رجالها قضوا في الحرب، والآخرون موزّعون بين الأسر والمنافي والمقابر، والبلاد مهدَّدة بالانهيار الكامل. في مثل هذا المشهد، كان يمكن للألمان أن يستسلموا للهزيمة وأن يتركوا رماد الدمار يبتلع حاضرهم ومستقبلهم، لكنهم اختاروا طريقًا آخر: طريق الإرادة والعمل، طريق بناء الإنسان قبل العمران، والنهضة قبل الندب على الأطلال.
لقد أدرك الألمان، منذ اللحظة الأولى، أن معركتهم الحقيقية لم تكن معركة جيوش وسلاح، بل معركة بقاء تتعلق بالقدرة على استنهاض الطاقات الكامنة في المجتمع، رجالًا ونساءً على حدّ سواء. لم يقفوا عند سؤالٍ عن دور المرأة ولا عند جدلٍ عقيم حول مكانتها؛ كانوا يعلمون أن الأوطان لا تُبنى بنصف طاقة ولا تنهض بنصف عقل. ففتحت المصانع أبوابها للنساء كما للرجال، واستقبلت الجامعات الطالبات كما تستقبل الطلاب، وشاركت المرأة الألمانية في كل تفاصيل الحياة، من إعادة تشييد البيوت المهدّمة إلى إدارة المختبرات العلمية والمساهمة في وضع أسس الاقتصاد الحديث.
كان وعيهم الجمعي واضحًا وبسيطًا في آن واحد: إذا لم تعمل كل يد، فلن تقوم للأمة قائمة. وإذا لم يُستثمر كل عقل، فلن يُكتب للوطن مستقبل. وهكذا تحوّلت المرأة الألمانية، في سنوات قليلة، من متلقٍّ للأحداث إلى صانعة للتاريخ، وارتقت بدورها من حدود الأسرة الصغيرة إلى فضاء المجتمع الكبير، لا من باب ترفٍ اجتماعي أو موضة عابرة، بل من باب الضرورة الوطنية. واليوم، بعد عقود قليلة من الانكسار، تقف ألمانيا بين أقوى اقتصادات العالم، بلا بترول ولا غاز ولا أراضٍ شاسعة، بل بما تملكه من عقول متّقدة وإرادة صلبة ورؤية واضحة لمستقبلها. لقد فهموا أن النهضة لا جنس لها، وأن الوطن لا يُبنى إلا حين تتكامل الطاقات لا حين يُقصى نصفها.
وعلى الضفة الأخرى، نقف نحن في الجزائر أمام مفارقة لا يمكن تجاهلها؛ بلد بحجم قارة، يزخر بالثروات الطبيعية، ويتكئ على إرث حضاري عريق، ويملك طاقات بشرية هائلة كان يمكن أن تصنع الفارق، ومع ذلك ما زلنا نتعثّر في خطواتنا الأولى نحو النهضة المنشودة. وليس سرًّا أن أحد أبرز أسباب هذا التعثّر هو تعطيل نصف قوة المجتمع، ذلك النصف المتمثّل في المرأة الجزائرية التي أثبتت، رغم كل القيود، كفاءتها العلمية وتفوّقها العملي في مجالات شتى، لكنها ما زالت تصطدم بجدار من النقاشات العقيمة التي تُستهلك فيها طاقاتها بدل أن تُستثمر.
ففي الوقت الذي سبقتنا فيه أمم عديدة إلى الحاضر والمستقبل، ما زلنا نغرق في أسئلة تجاوزها الزمن: هل مكان المرأة المطبخ أم المكتب؟ هل يجوز لها أن تتصدر منصبًا علميًّا أو سياسيًّا؟ هل عملها حقّ أصيل أم تنازل من المجتمع؟ هذه الأسئلة، التي حسمها العقل والواقع في بقاع أخرى من العالم، ما زالت عندنا مادة خصبة للجدل، في وقتٍ يحتاج فيه الوطن إلى كل يدٍ تبني، وكل عقلٍ يبتكر، وكل طاقةٍ تدفعه خطوة إلى الأمام.
لقد أثبتت المرأة الجزائرية قدرتها على الإسهام في ميادين الطب والهندسة والتعليم والبحث العلمي والفنون، وأظهرت من الكفاءة والالتزام ما يضعها في الصفوف الأمامية لأي مشروع وطني جاد. لكنها ما زالت، في كثير من الأحيان، رهينة تصورات اجتماعية جامدة تُقصيها عن مواقع القرار وتُهمّش دورها في بناء الاقتصاد والمجتمع. ومن هنا، فإن تجاوز هذه الذهنيات لم يعد رفاهية فكرية، بل شرطًا أساسيًّا للنهضة الحقيقية.
فالنهضة لا تتحقق بالشعارات ولا بالأماني، وإنما بالفعل الملموس والوعي العميق بأن المستقبل لا يُصنع بنصف عقل. إن الوطن الذي يُعطّل نصف طاقاته البشرية محكوم عليه بالتأخّر مهما امتلك من ثروات، ومجتمعٌ لا يؤمن بتكامل أدوار أفراده لا يمكنه أن ينافس في عالم تتحكم فيه العقول قبل الموارد.
إن المرأة الجزائرية ليست عبئًا يحتاج إلى معالجة، وليست قضيةً تنتظر الحسم، بل هي رصيد حضاري وثروة بشرية لا غنى عنها في معركة البناء. تمكينها ليس مِنّة من أحد، بل هو استثمار في مستقبل الوطن، وشرط لازم لنهضته واستقراره. وحين ندرك أن النهضة لا جنس لها، وأن الأوطان لا تُبنى بالتهميش والإقصاء، نكون قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق الصحيح نحو جزائر قوية، مزدهرة، ومتصالحة مع ذاتها.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|