|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |
محمد بسام العمري
!--a>
2025 / 10 / 12
لم تكن “ليلى” تستيقظ من نومها، بل من كوابيسها.
كل صباح، كانت تشعر أن قلبها ينهض قبل جسدها، متعبًا كأنه قضى الليل يركض في متاهةٍ من صرخاتٍ لا صوت لها.
تُعدّ الشاي بيدين متعبتين، تراقب البخار يصعد من الكوب، فتتساءل:
هل يمكن للروح أن تتبخّر أيضًا؟
تتجنّب المرآة.
منذ الحادث، صارت المرايا عدوّتها الأولى.
فكلّما نظرت، رأت امرأة تعرفها جيدًا… لكنها لا تشبهها.
ندبةٌ صغيرة على العنق كانت تذكيرًا يوميًا بما سُرق منها ذات ليلٍ طويل، لا يمرّ.
في طريقها إلى المدرسة، كانت تمسك المقود كما يمسك الغريقُ خشبةً وسط العاصفة.
كلّ صوتٍ مفاجئ يعيدها إلى تلك اللحظة.
كل ظلّ يتحرك على الرصيف يشعل فيها ارتجافًا لا تراه إلا هي.
تتمتم في سرّها كأنها تصلي:
"أنا بخير… أنا أُدرّس، أنا أعيش، لم يحدث شيء اليوم."
لكنها كانت تعرف أن الحادث لا ينتهي حين يزول الخطر، بل حين تتوقف الذاكرة عن التكلّم — ولم تفعل بعد.
حين تدخل المدرسة، تضع ابتسامتها كما تضع الطُلابَ دفاترهم على الطاولة: واجبًا لا أكثر.
تُلقي التحية على الحارسة، تمرّ في الممرّ الطويل الذي يفوح بعطر الطفولة والورق والهمس.
ضحكات الطالبات تصعد من النوافذ كطيورٍ صغيرة، فتشعر لحظةً بالدفء… قبل أن يبتلعها بردٌ داخليّ غامض.
في الصف، تواجه وجوه البنات، تلك الوجوه البريئة التي ترى فيها ماضيها قبل أن يُكسر.
تسأل نفسها بصمتٍ موجع:
"هل كنّ سيفهمن لو عرفن؟
هل سيرين فيّ الأستاذة نفسها التي كانت تشرح لهنّ نزار قباني بشغفٍ قبل عامين؟"
تبدأ الحصة بصوتٍ مستقرّ، لكن عينيها ترتجفان خلف الكلمات.
تلمح "سُهى" جالسةً في الزاوية، حزينة على غير عادتها.
تقترب منها وتهمس:
"مالك يا سُهى؟"
ترفع الطفلة رأسها بعينين دامعتين:
"أستاذة… أبي يصرخ عليّ كثيرًا… أحيانًا أخاف منه."
تبتلع ليلى غصّتها بصعوبة، تشعر أن الجدار بين الماضي والحاضر بدأ يتصدّع.
تقول بصوتٍ خافت:
"لا تخافي يا صغيرتي… بعض الرجال لا يعرفون كيف يُحبّون دون أن يؤذوا."
ثم تهمس في داخلها:
"وأنا أعرف ذلك أكثر مما ينبغي."
في استراحة الأساتذة، لم تكن الجدران تُنصت فقط، بل تُسرّب الهمس أيضًا.
"جميلة" تقول في زاويةٍ خافتة:
"مسكينة… لا أعلم كيف تواصل العمل بعد ما حدث لها."
فتردّ أخرى بصوتٍ متواطئ:
"أنا لو مكانها… كنت اعتزلت الدنيا كلها."
ابتسمت ليلى، لا سخريةً بل وجعًا.
"أنا لم أُكمل لأثبت أنني بخير، بل لأقنع نفسي أنني لم أمت تمامًا."
لكن هناك "هدى"، الزميلة الوحيدة التي لم تكن تنظر إليها بعينٍ مكسورة.
كانت تقترب منها كل صباح، تسألها بابتسامةٍ صادقة:
"نمتِ جيدًا الليلة؟"
فتجيب ليلى بهدوءٍ متعب:
"ساعتان فقط… لكن هذا أفضل من لا شيء."
كانت تلك الجملة الصغيرة بمثابة ضوءٍ ضعيفٍ يضيء عتمتها.
تصلها الهمسات عبر جدران الإدارة، عبر حديث أولياء الأمور:
"هل من اللائق أن تُدرّس لبناتنا امرأةٌ تعرضت لحادثٍ كهذا؟"
"المدرسة تتساهل كثيرًا… يجب نقلها."
كانت تلك الجُمل تنغرس فيها كإبرٍ باردة.
في الليل، كانت تسأل نفسها:
"هل أصبحتُ نجسةً في نظرهم؟
هل يُحاسبونني على جريمةٍ لستُ أنا من ارتكبها؟"
لكن وسط هذا الغبار، كانت تلمح بريقًا خافتًا في عيون بعض الطالبات:
"أستاذة، نحن نحبك لأنك تفهميننا… حتى عندما نسكت، تعرفين ما بنا."
وكانت تلك الجملة الصغيرة كجرعة حياةٍ تُسقي روحها العطشى.
في بيتها، كانت الجدران تعرف كل شيء، لكنها تصمت مثلها.
زوجها "نادر" حاول في البداية أن يكون حنونًا، لكن الحنان يصعب على من يقف أمام جرحٍ لا يُرى.
قال لها ذات مساء:
"ليلى، أريد أن أساعدك… لكنك لا تسمحين لي بالدخول إلى عالمك."
فأجابته دون أن تنظر إليه:
"لأنك لا تعرف الظلام الذي أحمله، ولا أريدك أن تراه."
ابنها الأكبر صار صامتًا أكثر، يخاف من أسئلته، ومن نظراتها.
أما الصغيرة "رُبى"، فكانت تتسلل ليلًا لتنام إلى جوارها كأنها تحرسها من شيءٍ لا تراه.
كانت الأم تزورها كل أسبوع، تضع في يديها مسبحة وتقول:
"اذكري الله يا بنتي… الله يمسح على القلوب."
فتبتسم ليلى، وتفكر:
"الله لا يمسح الجراح… بل يُعلّمنا كيف نحيا وهي معنا."
في أحد الأيام، وأثناء درسٍ عن الشعر الحديث، كانت تشرح بيتًا لمحمود درويش:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة."
وفجأة، لم تستطع إكمال الجملة.
انكسر صوتها، وغرقت الدموع في عينيها.
اقتربت “سُهى” ووضعت يدها على كتفها، وقالت بخوفٍ طفولي:
"أستاذة، لا تبكي… كلنا نحبك."
تجمّدت لحظة الزمن.
ثم، وللمرة الأولى، سمحت لدموعها أن تنهمر أمامهنّ.
وللمرة الأولى، لم تشعر بالخجل، بل بشيءٍ يشبه التحرّر.
كانت دموعها اعترافًا، واعترافها بداية النجاة.
بعد أسابيع، دعتها الإدارة لإلقاء كلمةٍ في يومٍ توعويّ عن العنف ضد النساء.
وقفت أمام القاعة، قالت بصوتٍ متماسكٍ رغم الارتجاف:
"أحيانًا، الصمتُ هو أوّل شكلٍ من أشكال النجاة.
لكن الشفاء يبدأ حين نقرّر أن نحكي… لا لنستعطف أحدًا، بل لنقول: نحن هنا، ولم نُكسر."
صفّق الجميع.
وفي تلك اللحظة، شعرت ليلى أن الليل الطويل بدأ ينحسر.
بدأت تشارك في ورشاتٍ داخل الثانوية عن الصحة النفسية ومواجهة العنف ضد النساء.
كانت تتكلم بصوتٍ مطمئن، كمن خرج من البحر أخيرًا ووجد اليابسة:
"أحيانًا، لا ننجو من الألم، بل نتعلّم كيف نحمله دون أن يكسرنا."
أصبحت الطالبات ينظرن إليها بإعجابٍ حقيقي، لا شفقة.
والأولياء الذين شككوا فيها، صاروا يشكرونها لأنهم رأوا في أعين بناتهم شجاعةً جديدة.
في المساء، جلست ليلى في شرفتها.
الريح تمرّ على وجهها كيدٍ تمسح رماد الأعوام الماضية.
من الداخل، كانت ضحكات أبنائها تصعد خفيفةً مثل نداءٍ إلى الحياة.
أغمضت عينيها، وقالت بصوتٍ هادئ:
"أنا لستُ ما حدث لي… أنا ما اخترت أن أكون بعده."
ثم كتبت في دفترها بخطٍّ ثابت:
"الناجون لا يحتاجون للشفقة… بل لاحترام صمتهم حين يتعلمون الكلام من جديد."
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
|
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|