المرأة: الكينونة التي تلد المعنى — قراءة فلسفية وجمالية عبر الفكر والديانات والأدب



محمد بسام العمري
2025 / 10 / 22

منذ بدء الخليقة، شكّلت المرأة محورًا للجدل والتأمل في الفكر الإنساني، ليس فقط بوصفها نصف المجتمع، بل بوصفها الجوهر الذي تنبثق منه الحياة. فهي الكائن الذي يجمع بين الحضور الفيزيقيّ والبعد الميتافيزيقيّ، بين القدرة على الخلق والقدرة على الحلم، بين الرقة والصلابة، بين المادة والروح.
لقد عبّر أفلاطون في محاورة المأدبة عن فكرة أن الجمال الأنثوي هو صورة للجمال الإلهيّ الذي يحرّك الروح نحو الكمال، بينما رأى الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه هكذا تكلّم زرادشت أن المرأة هي "لغز الإنسان الذي لا يُفكّ بالعقل بل بالشعر". وبين هذا وذاك، ظلّ الإنسان يحاول أن يقرأ سرّ الأنوثة لا كصفةٍ بيولوجية، بل كـرمزٍ كونيٍّ يعكس البُعد الإلهيّ للوجود.

المرأة في الفلسفة: من الجسد إلى الميتافيزيقا
تباينت الرؤى الفلسفية حول المرأة، لكنها لم تخلُ يومًا من الإعجاب بعمقها وغموضها.
في الفكر الإغريقي، رآها أفلاطون جزءًا من وحدةٍ روحية كبرى، إذ قال: "المرأة هي أجمل مخلوقات العالم لأنها مرآة الخير." أما أرسطو فربط دورها بالغاية الطبيعية للخلق، معتبرًا أنها "الوعاء الذي يحقّق اكتمال الصورة الإنسانية".
وفي العصور الحديثة، برزت سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر لتقول عبارتها الشهيرة: "لا تولد المرأة امرأة، بل تُصبح كذلك"، مؤكدة أن الهوية الأنثوية ليست جوهرًا فطريًا بل بناءً ثقافيًا.
أما جان بول سارتر، فكان يرى أن المرأة "الآخر الضروريّ" الذي من خلاله يكتشف الرجل ذاته وحدوده.
بينما عبّر ابن عربي في الفتوحات المكية عن رؤية صوفية متفرّدة حين قال:
"الأنوثة مظهر الحق في العالم، وبها يتجلى اسمه الرحمن."
هذه النظرة تجعل من المرأة صورة للفيض الإلهيّ، أي القدرة على الإحياء والتجدد والرحمة، وهي ذاتها المعاني التي تتردد في كلّ الديانات تقريبًا.

المرأة في الأديان: مهبط الرحمة وصورة الخلق
في الأديان السماوية، تُمجَّد المرأة كمنبع للخلق ومأوى للرحمة.
في الإسلام، يقول النبي ﷺ: "استوصوا بالنساء خيرًا"، ويؤكد: "الجنة تحت أقدام الأمهات." فالأم هنا ليست مجرد رابطة نسبية، بل بوابة الخلاص الوجودي.
أما في الديانة المسيحية، فإن صورة العذراء مريم ترمز إلى النقاء الإلهي، فهي "التي حملت الكلمة"، أي الوسيط بين السماء والأرض.
وفي اليهودية، تُقدَّس المرأة الحكيمة (إيشاه حاكماه) التي تجسّد الحكمة الإلهية (حوكما).
بينما تُظهر الديانات الشرقية كالـهندوسية والبوذية تقديسًا للأنثى باعتبارها طاقة كونية، فالآلهة لاكشمي وساراسواتي تمثلان الوفرة والعلم، وكوان ين في البوذية رمزٌ للرحمة المطلقة (كارونا).
وفي التصوف الإسلامي، تُشبَّه الأنوثة بالرحمة المحمدية ذاتها، كما قال الشيخ الأكبر ابن عربي:
"المرأة محل نظر الحقّ، لأنها صورة رحمته في العالم."
وهكذا تتجلّى المرأة عبر الديانات كـتجلٍّ للسرّ الإلهيّ في صور متعددة: الأم، النور، الحاضنة، الينبوع، والسماء.

المرأة في الأدب والشعر: من الحبيبة إلى الوطن
يقول جبران خليل جبران: "المرأة هي سرّ الحياة وأمّها."
في الشعر العربي، تحوّلت المرأة من موضوع غزليّ إلى رمز كونيّ. فقد قال محمود درويش:
"المرأة هي الوطن، والقصيدة التي لا تنتهي."
أما نزار قباني، فصاغ من أنوثتها خطابًا للحرية قائلاً:
"كلُّ امرأةٍ أحببتُها صارت وطنًا في قلبي."
وفي الأدب الغربي، رأى شكسبير في أنطونيو وكليوباترا أن المرأة "قوة قادرة على هدم إمبراطوريات وصناعة مجدٍ جديد"، بينما قال تولستوي في الحرب والسلام: "المرأة هي التوازن الذي يجعل الرجل إنسانًا لا آلة حرب."
وفي الشعر الصوفي، كانت المرأة رمزًا للحقيقة المطلقة، كما عند الرومي الذي قال:
"الأنثى ليست جسدًا يُشتهى، بل هي مرآة تُظهر وجه الله في العالم."
فهي عند الشعراء المحبوبة والمعشوقة والأم والمجاز والرمز، وكلّها تعبير عن حضورها الوجوديّ العميق في روح الإنسان.

المرأة في المجتمعات والثقافات: من التهميش إلى القيادة
منذ العصور القديمة، خضعت المرأة لأنظمةٍ أبوية صلبة، جعلتها تُكافح قرونًا لتُثبت أنها ليست تابعًا بل فاعلًا.
وقد أشار بيير بورديو في الهيمنة الذكورية إلى أن "المجتمع لا يُكرّس دون وعيه التفاضلي بين الجنسين"، أي أن تحرّر المرأة يبدأ من تفكيك البنى الرمزية التي تسجنها.
في الثقافة العربية، ظلت المرأة رمزًا للشرف والعطاء والكرامة، لكنها اليوم صارت أيضًا رمزًا للوعي والمشاركة والإبداع.
وفي الغرب، تجسدت المرأة كرمزٍ للحرية والاستقلالية، وفي آسيا تُقدَّس بصبرها، وفي إفريقيا يُنظَر إليها كينبوعٍ للخصب والحياة.
وفي العصر الحديث، تتجسد المرأة في أدوارٍ متعددة: الأم، العالمة، القائدة، الشاعرة، المربية، بل والناهضة بالمجتمعات.
قالت الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي:
"نكتب لنُعيد للمرأة صوتها الذي أُخذ منها لقرون."
أما الروائية الجزائرية آسيا جبار فقد لخّصت تجربة المرأة العربية قائلة:
"الكتابة فعل مقاومة أنثويّ، لأن كلّ كلمة تكتبها المرأة هي عودة من الصمت إلى الوجود."

المرأة في الفكر المعاصر: الأنوثة بوصفها طاقة كونية
تتعامل الفلسفة المعاصرة مع المرأة لا كجندرٍ بل كـقوة رمزية في الوجود.
فـمارتن هايدغر رأى في الأنوثة "انفتاحًا على الحميميّ"، إذ تمثّل المرأة إمكانية الوجود في حالته الشعرية الأصيلة.
أما إريك فروم في فن الحب فاعتبر أن "الحب الأموميّ هو أسمى أشكال الحب لأنه يمنح دون شرطٍ أو انتظارٍ"، وهو تعريف يمكن إسقاطه على جوهر المرأة في علاقتها بالإنسان والعالم.
وفي الدراسات النفسية المعاصرة، يرى كارل يونغ أن الأنوثة (الأنِيما) هي البعد الخفيّ في اللاوعي الذكوري، تمثل الجانب الحالم، الإبداعي، والرحيم في النفس البشرية.
إنها إذًا ليست "نصف المجتمع"، بل نصف الروح الذي بدونه يفقد الإنسان توازنه الوجوديّ والجماليّ معًا.

المرأة، القصيدة التي تكتب العالم
تظلّ المرأة القصيدة الكبرى التي يكتبها الله في كتاب الوجود.
هي التي تُعيد للعالم معناه كلّ صباح، وتغسل بدموعها أدران القسوة، وتمنح الحبّ للإنسان كي يبقى إنسانًا.
هي الأم التي تُربّي الأمل، والأنثى التي تُلهم الفن، والمفكّرة التي تُعيد ترتيب العالم بمعنى أعمق من القوانين.
كما قال بول إيلوار:
"وراء كلّ جمال في هذا العالم، امرأة تُحبّ في صمت."
وفي النهاية، يمكن القول إن المرأة ليست موضوعًا للفكر، بل هي مبدؤه الأول.
فهي كما وصفها الرومي:
"الطريق إلى الله يمرّ من قلب امرأة."

مراجع
1. أفلاطون، المأدبة.
2. ابن عربي، الفتوحات المكية.
3. سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر.
4. نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت.
5. إريك فروم، فن الحب.
6. كارل يونغ، الأنِيما والأنِيموس.
7. بيير بورديو، الهيمنة الذكورية.
8. آسيا جبار، فانتازيا، أنثى في الثورة الجزائرية.
9. محمود درويش، ديوان لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي.
10. الرومي، المثنوي المعنوي.