عن التعسف والنساء في سوريا



سمر يزبك
2007 / 2 / 20

لم يكن ينقص الشارع السوري في حالته الراهنة، سوى انتهاء آخر شكل من أشكال مدنيته. هذه المدنية التي تشكل الملمح الأساس في تنوعه الديني والقومي والجغرافي، فهو شارع متطور اجتماعياً إذا ما قيس بمصر مثلاً، على خلاف تجربته السياسية المتخلفة قياساً بالشارع المصري السياسي الذي يتمتع بهامش أكبر من الحرية.
والاتجاه الخطير الذي تسير عليه الحكومة السورية وبتسارع منتظم، لا يحث على الخوف، بل يدعو إلى وجود مؤشرات خطيرة على انهيارات قادمة في المجتمع، سوف تزيد الطين بلة وتُبرز سؤالاً مهماً: إلى أين يسير المجتمع السوري؟ وأين سينتهي بعد بضع سنوات؟ إذا ما استمرت الحالة على ما هي عليه. هذا السؤال الذي يجب أن يطرحه كل من هو معني بحال هذا المجتمع، خاصة بعد الخطوة الأخيرة غير المسبوقة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، عندما أصدرت وزيرتها قراراً تعسفياً، بحل جمعية نسائية مدنية أهلية ناشطة في مجال حقوق المرأة، وحتى لا نبالغ ونقول إن قرارات الإلغاء طارئة على المجتمع السوري، فقد اعتدنا عليها في حالات التجمعات الفكرية و السياسية، لكن أن يصل الأمر حتى الجمعيات الأهلية فهذه جديدة ! ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة.
في تاريخ 6/2/2007 وصل قرار حل الجمعية وإيقافها عن العمل إلى مقر الجمعية، وهو قرار وقعته السيدة الوزيرة ديالا الحاج عارف في تاريخ 24/1/2007 دون تقديم أي سبب لحل الجمعية، ودون سابق علم، أو إنذار كما اعتادت الوزيرة أن تناقش أمور الجمعيات مع عضواتها وأعضائها، عن طريق التحذير والتنبيه! وكأن الجمعيات جزء من مملكتها الخاصة، وجمعية المبادرة تأسست سنة 2001مع مجموعة من النساء السوريات الناشطات والمهتمات بالعمل المجتمعي والمدني في سورية. لم يتجاوز نشاط هذه الجمعية قضايا المرأة وحقوقها، وكان لها إنجازات كبيرة رغم المدة الزمنية القليلة نسبياً، ورغم أن العمل فيها تطوعي، ولا يمول من أي جهة سوى عمل النساء وجهودهن وتعبهن واندفاعهن لتغيير قوانين تتعلق بحقوق المرأة، حيث استطاعت الجمعية حشد أكثر من خمسة عشر ألف توقيع وسط ظروف صعبة ومهينة، فكل خطوة كانت تُقدم عليها النساء، كنّ يحتجن بالضرورة إلى الموافقة الأمنية، وكل نشاط ودورة تدريبية أيضاً، مع ذلك نزلن إلى الشارع، وتوزعن في أنحاء سوريا كلها، وجمعن التوقيعات من أجل تقديمها إلى مجلس الشعب لتغيير قانون حضانة الطفل، وحصلن على جزء من مطالبهن، عندما أقر مجلس الشعب السوري بناء على ذلك تعديل سن الحضانة. وبقي القسم المتعلق بسكن الحاضنة قيد الدرس. وفي الحملة التي أطلقها موقع "نساء سوريا" الالكتروني "أوقفوا قتل النساء في سوريا" والتي تطالب بتغيير قانون جرائم الشرف ومعاقبة القاتل على فعلته، وردع المجتمع عن ذبح النساء كما تذبح الخراف، في حال قررت الواحدة منهن تقرير مصيرها بنفسها. شاركت الجمعية بقسم كبير منها. بالإضافة إلى نشاطات لا تحصى حول تمكين المرأة اجتماعيا وسياسيا في سوريا.
ورغم أن السبب المذكور في قرار الحل، يدّعي أن إيقاف الجمعية عن العمل وسحب ترخيصها هو من أجل مقتضيات المصلحة العامة، فإن ما يدور خلف الكواليس بعيد عن هذه الحقيقة، خاصة أن المصلحة العامة كلمة فضفاضة ومطاطة، وتسبح فيها أغلب القرارات الحكومية التعسفية، فما هي المصلحة الوطنية من إيقاف عمل جمعية نسائية؟ وما الذي يلحقه نشاط النساء هذا بمصلحة الوطن! الكثيرون ربما لا يعرفون أن السبب الحقيقي، الذي بدأت عنده المضايقات التي تعرضت لها نساء الجمعية، كان عندما تدخل رجال الدين والشيوخ في دمشق ليوقفوا الجمعية عن العمل، بمختلف السبل والمحاولات، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، من كافة الأطياف: السلطة والمعارضة، دون أن يتحرك واحد منهم، أو يثير القضية، مع أن هذا الأمر طارئ على المجتمع السوري، حيث حوكمت نساء الجمعية على منابر جوامع دمشق، وشُتمن واُتهمن بالعمالة والخيانة، رغم أن البيان التأسيسي والتجمع الأساسي الذي قامت عليه الجمعية، كان قد ذكر من ضمن أحد أولوياته، مناهضة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وهو اتجاه يتناسب مع الاتجاه القومي للحزب الحاكم في سوريا وفق منطلقاته النظرية طبعاً.
مع ذلك، ذكر شيخ دين معروف في قلب دمشق، وفوق أحد منابر جوامعها الشهيرة: أن نساء الجمعية هن عميلات بوش وشارون، وأنهن يتآمرن ضد مصلحة الوطن، ويسعين إلى خرابه، ولم يتوقف الأمر عند حد الخيانة والعمالة، بل وجِهت لهن وعلى المنابر ذاتها وأمام مئات المصلين التهم اللأخلاقية والمؤذية. أيضا صمت الجميع عن الأمر، وبعد هذا التعريض، تدخل رجال الدين لدى مستويات عليا في الحكومة، لإيقاف عمل الجمعية، ليس الجمعية فقط، بل أي نشاط مدني آخر له علاقة بحقوق المرأة، لأن موقع "نساء سوريا" الالكتروني تعرض لنفس الهجمة من قبل رجل دين له حظوته لدى السلطة.
بعد ذلك بدأت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالتضييق على الجمعية، وطالبتها بوقف الاستبيان، وعدم جمع أي توقيعات، وجمدت عمل الجمعية ثم أخيراً، حلت الجمعية، ورغم أن نساء الجمعية كن التقين نائبة رئيس الجمهورية الدكتورة نجاح العطار ذات الفكر المتنور في 12/2006 وأطلعنها على المضايقات التي عطلت عملهن، واستغربت العطار طلب إيقاف الاستبيان، وأكدت ان هذه المطالب في قوانين الأحوال الشخصية هي مطالب لنساء سوريات منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. توقفت الجمعية عن العمل، وضمن قرار التوقيف، ذُكر أنه لا يحق للجمعية الطعن في القرار، وكل ما تستطيعه النساء هو أن يقدمن تظلما إلى الوزيرة، وكأن الوزيرة هي التي تملك الجمعية، والوزارة هي ملكيتها الخاصة، ولا يوجد قضاء، ولا دستور أو قوانين. وهذا واضح في اللهجة التي تخاطب فيها الوزيرة الجمعية، فإحدى قرارات منع المشاركة، وهي كثيرة وجهت الخطاب التالي:
إشارة إلى كتابكم المتمضن طلب الموافقة على المشاركة ب"ملتقى عمان" لمنظمات المجتمع الأهلي المناهضة للهيمنة الأمريكية بتاريخ 30/11/2006 ننذركم ونحذركم من المشاركة.
وحقيقة لا نعرف إن كان هذا خطاب يليق بخطاب وزيرة إلى إحدى الجمعيات التابعة لوزارتها، أم يليق بجنرال عسكري يقول: نفذ ثم اعترض، كما درجت العادة.
الأمر لم يتوقف عند النشاط المدني الذي تمارسة جمعية المبادرة النسائية كهيئة مدنية مستقلة، بل تعداه إلى الهيئات الحكومية، بعد أن وجهت وزارة الشؤون الاجتماعية حملتها المعادية لكل النشاطات المدنية، كما فعلت مع الهيئة السورية لشؤون الأسرة نفسها، وهي الهيئة التابعة للحكومة. فهل العمل المجتمعي يحتاج لكل هذه الوصاية حتى يكون بمأمن من هكذا قرارات؟ وهل ستتحول وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى عثرة في وجل العمل التنموي والمجتمعي في سوريا؟ ألا يكفي الإعاقات الهائلة المتمثلة بقانون الجمعيات نفسه، وقرارات المنع والإلغاء والتحذير والموافقات الأمنية التي تتدخل في الشاردة والواردة. ألا يكفي منع تراخيص، ومنع عمل "رابطة النساء السوريات، المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان" وهل سيبقى المجتمع السوري خاضعا لأهواء ومصالح شخصية بين الوزارات والمتنفذين وأصحاب القرار؟ وإلى متى سيتم السكوت عن هذا الأمر، لأنه في الوقت الذي تحل فيه الجمعيات المدنية، ويُضيق على الحريات العامة بحجة المصلحة الوطنية، تُمنح التراخيص للجمعيات الدينية، وتُطلق يدها في المجتمع، وتُسهل لهذه الجمعيات الدينية كافة الوسائل المتاحة لتطويرها وفاعليتها؟ وهل هو أمر بمحض الصدفة، ويخضع لمزاج الوزيرة؟ أم هو أمر مدروس ويخدم أصحاب القرار في دعم الخط الديني ومصالحته في سوريا، حتى لو كان ذلك على حساب تطور المجتمع؟ ومن هو المستفيد من ذلك؟ ربما يبدو سؤالاً يحتاج إلى تدقيق لأنه موضوع معقد، لكن معرفة الخاسر أبسط من ذلك بكثير، إنه هزيمة للروح المدنية الأخيرة، و للشارع الاجتماعي المتطور وانحداره، وانغلاقه نحو التعصب والتشدد، وذهابه إلى الماضي، بدل المستقبل، بعد أن بدأت ظواهر القوى الدينية تؤثر فيه، وتصوغ قرارات حكومته. غير آبهة بالكارثة القادمة بعد ذلك. الكارثة التي ستأخذ في طريقها الأخضر واليابس!