المرأة المصرية وحقوقها السياسية_ سيدات السلطة2



علا مجد الدين عبد النور
2025 / 11 / 20

استعرضنا في المقالات السابقة جذور حضور المرأة المصرية في الحياة السياسية، التحديات التي تواجهها ثم ظهور دور زوجات الرؤساء كعنصر مؤثر في المشهد السياسي و الوعي العام، تأتي المرحلة الممتدة من عهد السادات وحتى ما بعد 2011 كأكثر المراحل وضوحًا في تبلور "دور السيدة الأولى" بوصفه أداة فعل سياسي واجتماعي مباشر.


السيدة الأولى .. والأولى دائماً

لعبت النشأة الإجتماعية للسيدة جيهان السادات زوجة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، دوراً في تشكيل شخصية قيادية بالفطرة أهلتها لأن تكون أول من حمل واستحق لقب"سيدة مصر الأولى" ؛ حيث ولدت جيهان صفوت رؤوف بمدينة القاهرة لأب مصرى يعمل أستاذا جامعيا وأم بريطانية .. فهي ابنة العاصمة التي تحمل إرثاً ثقافياً مصرياً أوروبياً جعلها تمتلك ثقة لا محدودة في قدرتها على تغيير واقع المرأة المصرية ، عقلية جيهان الفريدة ظهرت في إختياراتها و توجهها ليس فقط وهي السيدة الأولى وإنما امتدت لحياتها بعد أن تركت القصر الجمهوري .

واعمالاً للحكمة القائلة (إبدأ بنفسك أولاً) فقد حصلت جيهان على بكالوريوس الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1977، وكانت وقتها فى عقدها الرابع. وأكملت مسيرتها الأكاديمية بنيل درجة الماجستير فى الأدب المقارن، ثم نالت درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1986 بعد خمسة أعوام من اغتيال أنور السادات عام 1981، وكرست جهودها بعد ذلك للتدريس بجامعة القاهرة، وإلقاء المحاضرات فى الجامعات العالمية.

استغلت جيهان السادات نفوذها لتعديل بعض القوانين في مصر، على رأسها قانون الأحوال الشخصية في عام 1979، الذي لا يزال يعرف في مصر حتى الآن بـ"قانون جيهان"، وكان أحد أبرز نتائجها تخصيص 30 مقعدًا للنساء في البرلمان، كما تدخلت في نفس العام لتعيين عائشة راتب كأول سفيرة مصرية.

كما منح هذا القانون الزوجة الحق في الطلاق في حالات تعدد الزوجات، والزام الزوج بإبلاغ زوجته قبل تسجيل الطلاق، ومنح الزوجة الحق فى تحريك دعوى قضائية للمطالبة بالنفقة، والحق بالعيش فى منزل الزوجية، حال إثبات عدم وجود مكان آخر تعيش فيه، بالإضافة إلى إطالة فترة حضانة الطفل لدى الأم.
ولقيت بعض هذه التعديلات انتقادات حادة من علماء دين بارزين، على رأسهم شيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود والشيخ الراحل محمد الغزالي، حيث اعتبروها مخالفة للشريعة الإسلامية.


أم الأبطال

خلال حرب أكتوبر 1973، تصاعد حضور السيدة جيهان فى الدعم المدنى للقوات المصرية ودعم الجبهة الداخلية، فكانت صاحبة دور مؤثر فى أعمال الإغاثة والرعاية الطبية لمصابى الحرب. وأسست جمعية «الوفاء والأمل» التى قدمت الخدمات الطبية والتأهيل المهنى والنفسى لقدامى المحاربين، فنالت ثانى أشهر ألقابها وهو «أم الأبطال».

لم تغفل السادات عن دورها الإجتماعي، فانشأت مشروع تنظيم الأسرة، وتولت مسئولية عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات، فى مقدمتها جمعية «الهلال الأحمر المصرى»، وجمعية «بنك الدم»، و«الجمعية المصرية لمرضى السرطان»، و«جمعية الحفاظ على الآثار المصرية» وغيرها من الجمعيات.
ِ
رائدة نسوية من البداية وحتى النهاية

توفيت جيهان السادات عام 2021 وكانت أول زوجة لرئيس سابق تقام لها جنازة عسكرية في القاهرة عند النصب التذكاري للجندي المجهول.
وقد وصفها موقع « سى. إن.إن» الأمريكى بأنها أول من نالت لقب «السيدة الأولى» عربيا، وأسست لما يجب أن تكون عليه صورة ومهام قرينة الرئيس.


سوزان مبارك: المشروع المؤسسي للسيدة الأولى

بعد عهد جيهان السادات، دخلت السيدة الأولى الجديدة سوزان مبارك على المشهد السياسي والاجتماعي في مصر، حاملةً تحديًا مختلفًا تمامًا. فالانتقال من نموذج جيهان الذي أرسى أول نفوذ تشريعي مباشر للسيدة الأولى، إلى سوزان، كان معناه أن عليها أن تبني مشروعًا طويل الأمد، يجمع بين النفوذ الثقافي والاجتماعي والسياسي، ويستوعب صورة الدولة الحديثة التي كان يسعى الرئيس مبارك لعرضها داخليًا وخارجيًا.

نشأتها وخلفيتها الاجتماعية

ولدت سوزان ثابت عام 1933 لأم إنجليزية وأب مصري، وهو ما منحها خلفية ثقافية مزدوجة، واطلاعًا على عوالم متعددة من الفكر والتعليم. تلقت تعليمها في القاهرة، ثم أكملت دراستها في جامعة القاهرة قبل أن تتزوج الرئيس حسني مبارك. هذا المزيج من الثقافة المحلية والعالمية أعطاها قدرة فريدة على التواصل مع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وعلى بناء شبكة علاقات واسعة داخل مصر وخارجها.

وراثة الدور وتطويره

ورثت سوزان مبارك من السيدة جيهان السادات لقب سيدة مصر الأولى، وحذت حذوها في الظهور في مجال العمل العام والاجتماعي، وممارسة مهمات وصلت أحيانًا إلى حد لعب دور سياسي. ارتبط اسمها بكثير من المجالس والمنشآت والقوانين، خصوصًا قوانين الأحوال الشخصية، وقانون كوتة المرأة الذي كان لها دور بارز في إقراره، مما ضمن 64 مقعدًا للنساء في البرلمان.

دورها الثقافي والاجتماعي

كان اسمها الأكثر انتشارًا بين المصريين "ماما سوزان"، حيث أمضت سنوات طويلة في رعاية مشروعات ومبادرات للعناية بالطفل والأسرة المصرية. وربما كان مهرجان القراءة للجميع أبرز هذه المبادرات، الذي وفر كتبًا عربية وعالمية بأسعار زهيدة جدًا، لتوسيع دائرة الثقافة والمعرفة بين جميع شرائح المجتمع.

كما كانت أول رئيسة للمجلس القومي للمرأة، واستمرت رئاستها لمدة عشر سنوات، ركزت خلالها على:

مراجعة واقتراح وتعديل التشريعات الخاصة بالمرأة.

توجيه السياسات العامة نحو مراعاة النوع الاجتماعي.

تمكين المرأة في المناصب القيادية، مثل تعيين أول قاضية، أول عمدة، وأول رئيسة لجامعة حكومية.


نفوذها السياسي

جاء في برقيات "ويكيليكس" أن سوزان مبارك كانت لاعبًا سياسيًا داهية، وأن السفارة الأميركية تعتبرها من أكثر خمس شخصيات تأثيرًا على الرئيس. ويعتقد أنها انخرطت بالعمل السياسي على نطاق واسع، بما في ذلك إقناع الرئيس بعزل مسؤولين وتعيين آخرين.

إرثها الاجتماعي والثقافي

ومع انقشاع غبار "ثورة يناير"، بدأ المواطنون يدركون الجهد الكبير الذي بذلته بإخلاص، والثراء الذي أضافته للأجيال الجديدة، خصوصًا في مجالي الثقافة، الصحة، وتحسين أوضاع المرأة. ويظل تأثير سوزان مبارك مرحلة محورية في تاريخ "السيدة الأولى"، حيث جمعت بين الحضور الرمزي، النفوذ السياسي الناعم، والمشروعات المجتمعية المستمرة، لتشكل نموذجًا فريدًا للسيدة الأولى المصرية بعد جيهان السادات.




"خادمة مصر الأولى" بين خطاب التواضع وصناعة القمع

بعد ثورة يناير 2011، مع تولي محمد مرسي الحكم، رفضت السيدة نجلاء محمود لقب "سيدة مصر الأولى"، مفضلة أن يُطلق عليها "خادمة مصر الأولى" أو "أم أحمد".
هذا الموقف لم يكن مجرد تفضيل شخصي، بل يعكس فلسفة التيار الإسلامي الحاكم آنذاك، الذي حاول إعادة صياغة دور المرأة في المجتمع كخادمة، وتقليص أي مساحة للتمكين أو التأثير السياسي والاجتماعي.

وأصدر مركز "سيداو" للديمقراطية وحقوق الإنسان تقريره الأول عن حالة المرأة المصرية في عهد أول رئيس مدني منتخب بعد ثورة 25 يناير 2011 تحت عنوان: "المرأة المصرية في النظام الجديد ـ كثير من العنف الممنهج... قليل من الحرية والكرامة الإنسانية". وأشار التقرير إلى أنه كان من المتوقع أن يحدث تقدم ملحوظ لوضعية المرأة بعد الثورة والانتخابات الرئاسية، إلا أن وضعية المرأة في المجتمع تدهورت، وأصبح ما كانت تنادي به من حرية وكرامة ضربًا من الخيال.

وأضاف التقرير أن المرأة المصرية تعرضت لعنف شديد لم يسبق لها مواجهته في أي عصر استبدادي أو استعماري، بما في ذلك التحرشات والاغتصاب، وأن حتى السيدات اللائي تم ترشيحهن على قوائم التيار الإسلامي ونجحن ودخلن المجلس النيابي لم يستطعن تحقيق أحلام المرأة في النهوض بمستواها الاجتماعي أو الاقتصادي، وإنما كن عبئاً عليها وتحملت المرأة تبعات سياسات عزّزت القهر والعنف ضدها.

وهكذا يظهر التناقض الصارخ بين المظهر الرمزي الذي رفضته نجلاء وبين الواقع القاسي الذي واجهته المرأة المصرية في عهد مرسي، مما يعكس محاولة السلطة الجديدة تقليص دور المرأة وإبقائها في حدود الدور الخدمي المسموح به، بعيداً عن أي تمكين حقيقي أو تأثير سياسي واجتماعي.


انتصار السيسي… العودة إلى الدور الاجتماعي والسياسي الرمزي


مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم بعد 2014، شهدنا مرحلة جديدة في تاريخ دور "السيدة الأولى" في مصر. فقد عادت الصورة الرمزية للسيدة الأولى لتتجسد في العمل الاجتماعي والثقافي والإنساني بشكل واضح .

كان ظهور السيدة الأولى نادراً في بداية حكم الرئيس السيسي ؛ فقد كانت واعية بأن الشعب المصري مرهق من تداعيات ثورتين، 25 يناير و30 يونيو 2013، مراعية بذلك شعور المواطنين الذين قد يتخوفون من أن تتغول انتصار سياسياً كما كان الحال في عهد سوزان مبارك . ثم بعد أن بدأ الوطن في التعافي، انطلقت في الظهور العلني بشكل أكبر، مركزة على العمل الاجتماعي والثقافي والخيري، وهو أسلوب ذكي يحسب لها، إذ حافظ على صورتها كرمز نسائي ووطني دون إثارة جدل سياسي، مع تعزيز دورها الفعلي في المجتمع، فاختارت أن يكون حضورها بارزًا في المجالات الخدمية والاجتماعية، مع تركيز خاص على تمكين المرأة والأسرة والطفل، مع الحفاظ على التوازن بين دورها العام والتزاماتها الأسرية.

ومن خلال دعمها المؤسسات والمبادرات الخيرية والتعليمية والصحية، استطاعت أن تصنع حضورًا ملموسًا يلامس حياة المصريين اليومية، ويعيد للسيدة الأولى مكانتها كرمز للمرأة التي تساهم في خدمة مجتمعها دون الدخول في صراعات سياسية مباشرة، لتؤكد أن التأثير يمكن أن يكون بوجودها ومبادراتها وإنجازاتها أكثر من كونه بسلطة رسمية أو منصب سياسي.

الخاتمة
يُظهر تاريخ "السيدة الأولى" في مصر كيف انتقل الدور من النفوذ الرمزي والاجتماعي إلى تأثير سياسي ملموس أحيانًا.
لتظل كل سيدة أولى مرآة لعصرها وتحدياته.