2. المخيمات كآلة طبقية: إعادة تشكيل البروليتاريا المقهورة في اقتصاد الحرب



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 7

يتكثف المشهد عند تخوم المخيمات بوصفه انتقالاً قسرياً من فضاء الموت المباشر إلى فضاء الموت المؤجل، إذ يُعاد ترتيب قوى السيطرة ذاتها داخل حيز يبدو إنسانياً ظاهرياً لكنه يعمل كجهاز لإعادة إنتاج البروليتاريا المشرّدة التي تحتاجها الميليشيات لإدامة اقتصاد الحرب. يتحول المخيم إلى معسكر عمل منخفض الكلفة تُدار فيه حياة آلاف النساء عند الحد البيولوجي الأدنى، وتُختزل فيه إنسانية النازحين إلى أجساد قابلة للاستغلال عبر الجوع، والمرض، والعمل القسري. تنكشف بذلك وظيفة المخيم الحقيقية بوصفه أداة ضبط طبقي لا مهرب فيها من علاقات القهر التي أنتجت الحرب، بل تمتد فيها تلك العلاقات وتتعاظم تحت مسميات “الحماية” و”المساعدة”.

يتحول الاكتظاظ إلى سياسة مقصودة تخفض تكلفة إعادة إنتاج قوة العمل عبر تجميع الفقراء في مساحات ضيقة تُحصر فيها الموارد القليلة، فتتقاتل الأسر يومياً على الماء والغذاء بينما تتكفل النقاط الأمنية بنزع ما تبقى من ملكياتهم القليلة عبر الابتزاز والجبايات غير الرسمية. تخلق هذه الظروف جيشاً احتياطياً من العمالة الرخيصة يدفعه الجوع للانخراط في اقتصاد الحرب، من تهريب الوقود والغذاء إلى العمل الموسمي بأجور لا تكفي البقاء. لا يظل المخيم هنا مجرد ملاذ، بل يصبح مصنعاً لإنتاج قوة عمل مذعورة يسهل التحكم في طاقتها الانتاجية، بينما يصفه الخطاب الإنساني بأنه “كارثة” تخفي في جوهرها علاقة استغلال تُصاغ بوعي كامل.

يتحول عمل النساء غير المأجور إلى مركز الثقل في هذه البنية لأنه يعيد إنتاج الحياة اليومية دون مقابل، ويخلق فائض قيمة مطلقاً يمتصه اقتصاد الحرب. تقضي النساء ساعات طويلة في جلب الماء، وتقنين الطعام، ورعاية المرضى في غياب كامل للأدوات الصحية، فيتحول الجهد الرعاية إلى مورد اقتصادي غير معلن يمنع انهيار المخيم، ويجعل بقاءه ممكناً من دون كلفة على القوى المسيطرة. تتداخل هذه العملية مع إعادة إنتاج الأدوار الجندرية في شكلها الأكثر عنفاً، إذ تصبح الطوابير الطويلة وساحات التوزيع أدوات لضبط النساء وابتزازهن، بينما تُدار أقصى درجات الحاجة عبر شبكات السوق السوداء التي تستثمر في الجوع كسلعة يومية.

يتخذ انهيار الصحة وظيفة طبقية واضحة حين يُدار المرض كآلية فرز بيولوجي تستهدف الفقراء أولاً، فلا يُعد غياب القابلات أو الأدوية نقصاً عرضياً بل سياسة تُسهِم في تشكيل ديموغرافيا تتواءم مع مطالب الرأسمال الطفيلي. يموت الأطفال بسبب أمراض قابلة للعلاج، وتدفع الأمهات أثماناً قاسية لغياب الرعاية الصحية، بينما يتسرب الدواء إلى السوق السوداء ليُباع بأضعاف سعره. يتحول الألم نفسه إلى قيمة اقتصادية تُستثمر داخل اقتصاد الحرب، وتصبح حياة النازحين مورداً متجدداً للربح لوكلاء الميليشيات وشبكات التهريب وبعض عناصر المنظمات الفاسدة.

يتشكل المخيم تدريجياً كسوق متداخلة عضوياً مع آلة الحرب، فتُعاد بيع المساعدات، وتُهرَّب السلع الأساسية عبر وسطاء مرتبطين بالميليشيات، وتُدار الحاجة كأداة حكم تضمن تفكيك التضامن داخل كل خيمة وطابور. يتحول الجوع إلى تقنية سياسية تمنع تشكّل وعي جماعي، وتدفع الأفراد إلى النجاة الفردية، فتضعف الروابط المجتمعية التي يمكن أن تشكل خطراً على اقتصاد الحرب القائم على تفتيت المجتمع.

لكن هذا الجحيم المحكم لا يمنع انبثاق لحظات مقاومة تنشأ من قلب التناقضات ذاتها. تبني النساء شبكات تضامن صغيرة تتقاسم الطعام، وتبتكر طرقاً لجلب الماء، وتنظم حماية جماعية للأطفال، وتشكّل منظومات إنذار ضد الاعتداءات. تتجاوز هذه المبادرات حدود البقاء لأنها تحمل إمكانية التحول إلى مجالس شعبية تدير شؤون المخيم ذاتياً، وترفض العمل القسري في مشاريع الاقتصاد الحربي، وتعيد تشكيل الروابط الاجتماعية على أساس نضالي يمكن أن يتطور إلى وعي طبقي صريح.

يتضح أن تحرير المخيمات لا يتم عبر تحسين الخدمات أو توسيع المساعدات لأن المخيم ذاته جزء بنيوي من اقتصاد الحرب. يكشف تفكيك المخيم كمعسكر عمل أن الخلاص يمر عبر كسر علاقات النهب التي تنتج المخيم، وبناء تنظيم طبقي داخل المخيمات يعيد تعريفها كمساحات مقاومة لا كمساحات انتظار للموت. وهنا يصدق تحليل هارفي حين يصف منطق “التراكم عبر النهب” الذي يجعل الكارثة مورداً للربح، ويتجلى قول فانون حين يؤكد أن "البؤس ليس نتيجة طبيعية بل صناعة بشرية تُدار بوعي طبقي يخدم مصالح قوى الهيمنة."

النضال مستمر،،