المخرج، وسيدة القرن !



حسن مدبولى
2025 / 12 / 8

عندما قرأتُ تصريحًا متداوَلًا على لسان أحد المخرجين بأن كتابة وإخراج فيلم عن أم كلثوم، أصعب عليه من إخراج فيلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم شاهدت مشهد الفيديو الذي ظهر فيه باكيًا في كواليس العمل، بينما تبدو البطلة إلى جانبه في لقطة أثارت جدلًا واسعًا على مواقع التواصل—أدركت أننا في زمن تتجرأ فيه التفاهة على الثوابت، ويمتد فيه الاستعراض أحيانًا إلى حدود غير مفهومة، حدود يجسدها الشعور العام لدى من يتابعون جرائم الابادة في غزة بدم بارد ،وهم يمضغون العلكة بميوعة ومساخة، ويعلنون بوقاحةٌ يحسدون عليها، بانهم يحملون هم المنكوبين،ويبذلون قصارى جهودهم لانقاذهم !!

فأين هي “الصعوبة” في إعادة تقديم سيرة مطربة عظيمة تناولها الإعلام عشرات المرات؟ وهل اختُزل تاريخ النساء المصريات في أم كلثوم وليلى مراد وبمبة كشر !؟
أين اللواتي تستحقّ كلٌّ منهن فيلمًا لا يجمّل، بل يعرّي ويكشف ويقاوم !؟

ولا أدرى بهذه المناسبة لماذا قفز اسمٌ نسائى عبقرى إلى ذاكرتى على الفور : درية شفيق،
ولعل ذلك يعود لمرور نصف قرن على رحيلها فى سبتمبر الماضى، أو لإننا نعيش هذا الشهر ذكرى ميلادها السابعة عشرة بعد المائة.
حيث عدتُ إلى مقالي القديم عنهابالحوار المتمدن ، واكتشفت دهشتي الأولى حول سيرتها من جديد: حجم عبقريتها، ومأساتها، ومعاركها التي خاضتها وحيدة في مواجهة الاحتلال والجهل والرجعية والاستبداد، حتى وصفتها صحف أجنبية آنذاك بأنها “الرجل الوحيد في مصر”—في تعبير رمزي عن صلابتها لا أكثر.

والمؤسف أننا نحن الذين تساهلنا مع ما نُسب فنيًا أو سياسيًا إلى أم كلثوم وعبد الوهاب، وغفرنا لكليهما قربهما من السلطة ( الرجعية الفاسدة عميلة الاستعمار) ثم احتفينا بثوريتهما وتقدميتهما لاحقًا، لم نمنح درية شفيق القدر نفسه من الإنصاف.
ولم يشفع لها تاريخها في الدفاع عن النساء، وتحريض المصريين على مقاومة الاحتلال، ورعايتها لأسر الفدائيين فى القناة وقت العدوان الثلاثى،و لكن فقط تذكرنا لها ، انها كانت الوحيدة تقريبًا التي خاطبت السلطات الثورية الجديدة بتهور وجرأة وشجاعة نادرة مخلصة غير مألوفة، ولا مرغوبة، فكان نصيبها منا التهميش والمحو من التاريخ،

وُلدت درية شفيق في طنطا يوم 14 ديسمبر 1908، لأم من أسرة ناصف وأب من عائلة شفيق. حصلت على الدكتوراه في السوربون عام 1940 برسالة تثبت فيها أن الإسلام منح المرأة حقوقًا متقدمة لزمنه. تزوجت من ابن خالتها نور الدين رجائي في باريس، وعادت لتعمل مفتشة لغة فرنسية، ثم سافرت رغم اعتراض الوزارة لتستكمل بحثها، قبل أن تعود وتُفاجأ برفض تعيينها في الجامعة، وهو الرفض الذي برّرته بعض المصادر بمبررات شكلية لا علاقة لها بالكفاءة الأكاديمية.

ولم تكن تجربتها مع اتحاد هدى شعراوي أكثر سهولة، فأسلوبها الثائر لم ينسجم مع محيطٍ تقليدى محافظ قريب من دوائر النفوذ. فقررت أن تقاوم وحدها: اتجهت إلى الصحافة، حررت جريدة “المرأة الجديدة”، ثم أسست “بنت النيل”، أول مجلة نسوية تنويرية تتعامل مع المرأة باعتبارها مواطنة كاملة، لا جزءًا من ديكور اجتماعي، كما أنشأت مدارس لمحو الأمية، وروّجت لفكرة العمل الأهلي ، وترجمت القرآن للإنجليزية والفرنسية، وأصدرت دواوين شعرية ،

كانت درية شفيق تؤمن بأن تحرير المرأة جزء من تحرير الوطن، فخرجت إلى الشارع، وفي لحظة فارقة اقتحمت البرلمان مع 1500 امرأة لفرض حق المصريات في المشاركة السياسية، وبعدها بأيام قليلة أُقر لأول مرة حق المرأة في الانتخاب والترشح فى العصر الملكى،

وفي 23 يناير 1952، ارتدت فتيات “بنت النيل” زيًّا رمزيًا مستوحى من أزياء وملابس الفدائيين، وتظاهرن أمام بنك باركليز الإنجليزي تضامنًا مع المقاومة فى مدن القناة ، فتم توقيفها ومحاكمتها بتهمة “الإخلال بالنظام الاقتصادي”— وتهم أخرى متعددة كانت تُستخدم آنذاك ضد قادة الاحتجاجات،

وعقب نجاح ثورة يوليو 1952، استقبلها الرئيس محمد نجيب، وطلب منها الهدوء ، مؤكدا لها أن كل مطالب الشعب بالحرية ستتحقق، فوعدته بدعم الثورة بكل ماتملك ، وانشأت حزب النيل الذى أعلن دعمه للتغيير ، لكن الصدام وقع لاحقًا حين تجاهل الدستور الرسمى الجديد تمثيل النساء، فأعلنت درية ومعها بعض انصارها إضرابًا في نقابة الصحفيين، ونُقلت إلى المستشفى، قبل أن تتعهد الدولة بإدراج حقوق المرأة بالدستور،

وخلال العدوان الثلاثي، أسست درية فرق التدريب النسائي، وقادت حملات كبيرة للتبرع بالدم والمال،
لكن الخلاف السياسي عاد للظهور في 1957، فدخلت السفارة الهندية وأعلنت إضرابًا عن الطعام مطالبة بعودة الحريات وإنهاء الحكم الفردي، وتناولت الصحافة العالمية الخطوة باهتمام واسع، قبل أن تُنقل لاحقًا إلى الإقامة الجبرية بعد فض الاعتصام.

ومن هنا بدأت سنوات العزلة والتنكيل. ففُرضت عليها رقابة مشددة، أُغلقت مجلاتها، وحُلّ حزبها، ومنعت من الكتابة والتدريس والظهور الإعلامي، وفق ما تؤكده شهادات كثيرة في ذلك الوقت.

والأدهى من كل ذلك، أن أحدًا من رموز الثقافة الكبرى لم يتبنَّ قضيتها أو يدافع عنها دفاعًا حقيقيًا: لا طه حسين، ولا العقاد، ولا الحكيم، ولا محفوظ، ولا منصور، ولا هيكل ، ولا حتى مصطفى امين الذى كتب عنها بعد موتها، فبقيت وحدها تواجه مصيرها المؤسف، مثلها مثل آلاف الأحرار المخلصين،

ظلت درية شفيق محتجزة في منزلها لسنوات طويلة، حتى توفيت بعد سقوطها من شرفة شقتها في الزمالك يوم 20 سبتمبر 1975—وهي واقعة ظلّت ظروفها محل تساؤلات إنسانية كثيرة، دون أن تُثبت أي جهة رسميًا ما إذا كانت حادثًا أو انتحارًا.

تركت لنا درية تلك الجملة العميقة من بول إيلوار: «أيتها الحرية، إليك أهدي قلبي، لولاك ما كانت لي أبدًا حياة».

واليوم، بعد نصف قرن على رحيلها، لا فيلم يتباهى مخرجه بـ“صعوبته”، ولا حتى مسلسل من سبع حلقات فقط، يقترب من إنصاف امرأة هزّت برلمانًا، وكسرت احتلالًا، وواجهت استبدادًا كاريزميا طاغيا ، ودفعَت ثمن حرية شعب بمفردها، وبينما تتنافس الشاشات في تخليد المطربات والراقصات، تبقى درية شفيق خارج الضوء، لأن الضوء الحقيقي لا يحتاج من يتاجر به، بل من يراه.