|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |

عماد حسب الرسول الطيب
!--a>
2025 / 12 / 8
يُعيد اقتصاد الحرب السوداني تشكيل الأسرة لا بوصفها ضحية جانبية، بل كحقل إنتاج مركزي تتحمّل داخله النساء عبء إعادة إنتاج قوة العمل المدمرة. تتحول الأسرة تحت ضغط الانهيار إلى ورشة عمل غير مأجورة تمتص صدمات غياب الدولة وانهيار الخدمات، بينما تتكفّل النساء وحدهن بضمان استمرار الحياة اليومية في اقتصاد لا ينتج إلا الموت والندرة. لا ينشأ هذا التحول تلقائياً، بل هو سياسة طبقية واعية تعتمد عليها البرجوازية العسكرية كي تُلقي بتكاليف الأزمة على ظهر البروليتاريا المنزلية، فتتشكّل داخل الخيمة الواحدة شبكة رعاية مُنهَكة تُعيد إنتاج العمالة المستقبلية دون أن تُكلف النظام شيئاً. يتداعى المعيل الذكوري بالموت أو التجنيد أو الفرار، فتتحول المرأة إلى معيلة قسرية دون أن تتحرر من الدور المنزلي التقليدي، ما يؤدي إلى تكدّس طبقات من العمل اليومي تحوّلها إلى خادمة للنظام الطبقي تحت لافتة "واجب أسري" .
يشتد الاستغلال حين يُعاد بناء العلاقات الأسرية كشبكات أمان بديلة للدولة، إذ تُنجز الجدة والحفيدة والأم عمل رعاية جماعياً يضمن بقاء الأطفال ويقلل كلفة إعادة الإنتاج على الميليشيات. ويتحول كل احتياج أساسي إلى ساحة ابتزاز تُديرها السوق السوداء التي تحرسها الميليشيات، فتصبح المرأة مضطرة للتفاوض على الطعام، وعلى الخروج، وعلى الحياة نفسها، ما يجعل الأسرة خلية استغلال دائمة لا مجال داخلها للتوقف أو الاعتراض.
يتعمق الانقسام الطبقي داخل المجتمع النازح حين تتمكن بعض الأسر الميسورة من شراء حماية نسبية، بينما تغرق الأغلبية في اقتصاد الشحّ الذي يحول النساء إلى عاملات يوميات في أسواق هامشية لا تنتج سوى قهر جديد. ويتحوّل هذا الانقسام إلى أداة لقطع الطريق على التضامن الطبقي، فتُعاد صياغة الأسرة من جديد كجدار يفصل لا كجسر يربط، رغم أن جميع هذه العلاقات تبدو في ظاهرها علاقات حميمية.
داخل هذا الواقع، يصبح عمل المرأة غير المأجور المحرك الأعمق للحرب، لأنه ينتج يومياً ما يسمح للنظام الطفيلي بالاستمرار. لكن هذا الموقع نفسه يفتح إمكان المقاومة، فعندما يتحول العمل المنزلي من عبء فردي إلى وعي جمعي، تبدأ النساء بتشكيل خلايا تضامن قادرة على التفاوض لا بوصفها طلباً إحسانياً، بل كحق طبقي يُصادر يومياً. تنشأ داخل المخيمات شبكات عمل يومي تُعيد تنظيم الفضاء الاجتماعي من الأسفل، ما يجعل الأسرة تحت قيادة النساء نواة لبنية سياسية بديلة لا تحتاج إذناً من أحد لتتشكل.
لا يكتمل هذا الاستغلال داخل الأسرة إلا حين يُعاد إنتاجه في فضاء الدولة، إذ يتحول النسيان إلى سياسة حكم تُقصي النساء عن طاولات التفاوض التي تحدد مصير المجتمع الذي يعشن داخله. يتحرك النسيان هنا كأداة قمع ناعمة تُحوّل النساء إلى مجرد "قضية إنسانية" تُستعمل في الخطاب الدولي، بينما تُستبعد أصواتهن من هندسة المستقبل. تتحدث الاتفاقيات عن التنمية والاستقرار، لكنها تتجاهل اقتصاد الحرب الذي تصنعه أيدي النساء داخل الخيام.
وبهذا يُعاد إنتاج الفصل بين من يدفع ثمن الحرب ومن يصنع قرار السلام، فيتجلى النسيان كتكملة لاقتصاد الاستغلال المنزلي، لا كمرحلة منفصلة عنه. تحرس المؤسسات الدولية هذا الإقصاء حين تستقبل نخباً قابلة للتطويع، وتستبعد النساء اللاتي قدن لجان المقاومة وشبكات البقاء، لأن إدماجهن يعني بالضرورة الاعتراف أن الحرب صراع طبقي لا يمكن حسمه عبر صفقات فوقية.
ويكشف هذا الإقصاء أن النخبة ذاتها التي صنعت الخراب تعيد إنتاج نفسها داخل استحقاقات ما بعد الحرب، بينما يُعاد إسكات النساء اللاتي دفعن كلفة البقاء. يتجلى النسيان أيضاً حين يحتفي الخطاب الثوري بشجاعة النساء في ساحات الانتفاضة، ثم يتجاهلهن عند إعادة هندسة المرحلة الانتقالية، فتعود البنية الأبوية إلى الحياة من جديد داخل القوى التي تزعم السعي إلى التغيير.
وتتجسد هذه المفارقة حين تُختزل النساء في رموز ثورية تُرفع في المظاهرات، بينما يُعاد إبعادهن عن الفضاء السياسي الحقيقي، فتصبح الثورة منقوصة لأنها تغفل مركز إعادة الإنتاج الاجتماعي. ويؤدي هذا التجاهل إلى تكريس بنية طبقية منعزلة تُدار فيها السياسة فوق حياة من يصنعونها، ما يجعل النسيان امتداداً مباشراً لاستغلال العمل المنزلي الذي يُنتج المجتمع يومياً.
تتخلق المقاومة حين تفهم النساء أن موقعهن داخل الأسرة هو الموقع ذاته الذي يُقصين بسببه من السياسة، فيحوّلن هذا الموقع إلى قوة مضادة قادرة على تعطيل منطق النسيان. وتبدأ هذه المقاومة من تحويل شبكات الرعاية إلى شبكات وعي، ومن نقل الخبرة اليومية من مجال البقاء إلى مجال الصراع، فتصبح الأسرة خلية سياسية، ويصبح العمل المنزلي غير المأجور شرطاً لإنتاج وعي طبقي قادِر على اختراق حدود الدولة والميليشيا معاً.
وعندما تطالب النساء بحصص عادلة، وبخدمات أساسية، وبتمثيل سياسي، فإنهن لا يطلبن امتيازات بل يعلنّ أن البنّية التي أنتجت الاستغلال داخل الأسرة هي نفسها التي تنتج النسيان على مستوى الدولة. وتتكشف الخلاصة الطبقية حين نفهم أن تحرر النساء داخل الأسرة وتحول النسيان إلى سياسة حكم هما وجهان لبنية واحدة تُدير الحرب من الأعلى وتعيد إنتاجها في الأسفل.
ويظل هذا التشابك هو ما يجعل تحرر المرأة جزءاً من تحرر الطبقة العاملة كلها، لأن عمل النساء المنزلي هو الأساس الذي يُبنى عليه اقتصاد الحرب والاقتصاد السياسي للسلام المؤجل. وتذكرنا روزا لوكسمبورغ بأن حرية العمال لا تكون إلا بحرية جميع العمال، ما يعني أن حرية النساء داخل الأسرة لا تنفصل عن حرية الطبقات المقهورة في وجه البرجوازية العسكرية.
النضال مستمر،،
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
|
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|