4. فائض القيمة القذر – اقتصاد الجسد ومعسكرات العمل في منظومة السوق الأسود السودانية



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 10

يتحول السوق الأسود في زمن الحرب السودانية إلى الشكل الأكثر اكتمالاً لسلطة البرجوازية العسكرية، إذ يُعاد بناء السيادة من خارج الدولة الرسمية عبر شبكة توزيع تتحكم في الغذاء والدواء والوقود، فتحوّل الحاجات الأساسية إلى أدوات خضوع طبقي مباشر. يعمل هذا الاقتصاد بوصفه جهاز دولة موازٍ لا يحتاج إلى مؤسسات ولا قانون، بل إلى السيطرة العنيفة على مسارات السلع، وإلى تحويل الندرة إلى بنية دائمة تسمح بانتزاع فائض القيمة من أفقر الفئات. تنشأ هذه البنية من داخل الانهيار نفسه، لأنها تعتمد على تفكيك السوق الرسمي وتفريغ القطاع العام من كل قدرة على تلبية الحاجات، بحيث يصبح المواطن مضطراً للرضوخ لشروط الميليشيات كي يبقى على قيد الحياة.

يتشكل داخل هذا الاقتصاد طبقة وسيطة من السماسرة والوكلاء، هم في الوقت نفسه مستفيدون ومستغلون، ويشكلون نموذجاً صارخاً للوعي الطبقي المتناقض. فهم يتلقون الحماية من الميليشيات مقابل تأمين المرور للبضائع، ويجمعون الأرباح عبر الرشوة وفرض الأسعار، بينما يتعرض الفقراء والمنتجون لأقصى درجات الاستغلال. وعي هذه الطبقة محدود ومجزأ: فهي تدرك موقعها كطرف قادر على الربح، لكنها لا تملك القدرة على تحدي النظام الطفيلي أو السيطرة على الاقتصاد بشكل مستقل، فتظل أدوات داخل دورة تراكم رأس المال الحربي. في الوقت ذاته، بعضهم يتحرك ضمن شبكات تضامن محلية محدودة، مستفيداً من علاقات القرابة أو الولاء، ما يخلق تناقضاً داخلياً: هم يستخرجون فائض القيمة من أقرانهم بينما يشاركون أحياناً في مقاومة جزئية لإضعاف سيطرة الميليشيات في مناطق محددة.

توسيع فكرة "التراكم البدائي العنيف" لا يمثل لحظة تاريخية منتهية، بل دورة إنتاجية يومية تتكرر عبر العنف الممنهج. ففي دارفور، تُظهر الشهادات كيف أن النهب المنظم للمحاصيل والمواشي يتزامن مع حالات الاغتصاب الجماعي داخل المخيمات، في حلقة مترابطة من التدمير الاقتصادي والاجتماعي. هنا يلتقي اقتصاد الجسد مباشرة مع منطق "معسكرات العمل" التي ناقشناها في المقال الثاني: فالنساء والرجال في المخيمات يتحولون إلى قوة عمل منزلية وحقول إنتاج مصغرة، حيث يُستخرج من جهدهم الجسدي والاجتماعي فائض قيمة مجاني يسد ثغرات الاقتصاد الحربي ويغطي كلفة انهيار الدولة، بينما يُستغل الجسد الأنثوي كسلعة في السوق الأسود ضمن نفس الدورة.

انهيار شبكات الرعاية الصحية يعمّق هذا الاقتصاد الطفيلي، فمع توقف نحو 70% من المرافق كما توثق تقارير الأمم المتحدة، تُفرض أسعار باهظة على الخدمات، ويُجبر الفقراء على البيع من ممتلكاتهم أو العمل في السوق الأسود لتغطية الحاجات الأساسية. شهادة نازحة من الفاشر توضح أن بيع بقرة العائلة مقابل مضاد حيوي لطفل مريض أصبح ممارسة يومية، حيث تتحول الصحة إلى امتياز طبقي يُدار بواسطة وكلاء مرتبطين بالميليشيات، وهو امتداد مباشر لمنطق السوق الأسود العام.

يتوسع السوق الأسود إلى الريف والمدن على حد سواء، فيحول المناطق الزراعية إلى مخازن للمواد الخام، فتنهب المحاصيل، وتفرض الضرائب، وتُقيّد حركة المدخلات الزراعية. يتحول المزارع إلى عامل مستلب داخل أرضه، بينما تتراكم الثروة في أيدي قلة من الميليشيات والسماسرة، بما يتوافق مع وصف ماركس لـ"التراكم البدائي للعنف". المدن نفسها تتحول إلى فضاء تلتقي فيه شبكات السمسرة والاحتكار مع الولاءات المسلحة، فتتضح العلاقة العضوية بين العنف الاقتصادي والسيطرة العسكرية، والهيمنة الطبقية التي تضمن استمرار فائض القيمة على حساب الأغلبية.

لكن المقاومة تنبثق من قلب هذا الخراب. لجان المقاومة مثل لجنة مقاومة جبل مرة وشبكة التضامن النسائي في دارفور، بالإضافة إلى التعاونيات الزراعية في مناطق النيل الأزرق، تمثل مسارات بديلة لإعادة توزيع السلع والموارد بعيداً عن الميليشيات. هذه اللجان ليست ظاهرة جديدة، بل هي تطوير وتنظيم لشبكات الصمود التلقائية التي نشأت في المخيمات، حيث تتحول المقاومة اليومية إلى تنظيم سياسي واعٍ. المبادرات تُعيد إنتاج اقتصاد من الأسفل، حيث يتخذ العمل الجماعي شكل تنظيم سياسي واعٍ، ويُحول شبكات الدعم الاجتماعي في المخيمات إلى خلايا مقاومة فعلية، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بكل من "معسكرات العمل" و"اقتصاد الجسد" التي أشرنا إليها.

يتضح في النهاية أن السوق الأسود ليس مجرد تشويه للحرب، بل بنيتها الاقتصادية الأساسية. وهزيمته لا تتحقق عبر التنظيم الإداري أو الإصلاح القانوني، بل عبر تفكيك الطبقة الطفيلية التي تتغذى منه، واستبدال اقتصاد النهب باقتصاد إنتاج فعلي يربط نضال المنتجين في الحقول والمصانع بنضال النساء ضد تحويل أجسادهن إلى سلعة. يقول لينين إن "الثورة هي سلطة من لا يملكون على من يملكون"، وفي السودان لن تتجسد هذه السلطة إلا حين يفرض المنتجون والشباب والنساء شروطهم على توزيع الثروة ومعنى الدولة. كما كتب ماركس في "رأس المال" عن تحويل كل شيء إلى سلعة، فنرى اليوم كيف تتحول الحرب إلى آلة لتحويل الحياة والكرامة والجسد البشري إلى مواد خام للتراكم الطفيلي. مقاومة هذا التحويل تتطلب تنظيمًا طبقيًا واعيًا، لا مجرد شجب أخلاقي.

النضال مستمر،،