5. ايديولوجيا النيوليبرالية والجسد: تبرير القمع البنيوي في سودان ما قبل الحرب وأثناءها



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 12

يتأسس العنف الموجّه ضد الجسد السوداني في الحرب على أرضية أعمق من الاشتباك العسكري، وهي أرضية الإيديولوجيا النيوليبرالية التي شكّلت وعي الدولة والبرجوازية طوال العقود السابقة، ورسّخت ثقافة تقوم على الفردانية وتحويل اللامساواة إلى “طبيعة اجتماعية”. تعمل هذه الإيديولوجيا كسلاح طبقي يعيد تعريف الفقر باعتباره فشلاً شخصياً، ويحوّل العنف الاقتصادي إلى ضرورة عقلانية، ويختزل الجسد النسائي في وظيفة رعاية منزليّة بلا قيمة إنتاجية معترف بها، ما يجعل تحميل النساء كلفة الأزمة ممارسة تبدو “منطقية” داخل نظام يساوي بين القيمة والربح. وتنتج هذه البنية تبريراً مسبقاً للعنف الجنسي اللاحق، لأنه يجد جسداً منزوع الحماية المؤسسية، ومُعدّاً مسبقاً ليُستغلّ بوصفه مورداً في سوق حرب متوحّشة.

يعمّق هذا المنطق أثره في مرحلة ما قبل الحرب عبر سياسات “الإصلاح الاقتصادي” التي جردت النساء من شبكات الأمان، وخصخصة الخدمات الصحية التي حولت الرعاية من حق اجتماعي إلى سلعة نخبوية. وحين انهارت الدولة في الحرب، لم يكن ذلك بداية الأزمة بل ذروتها، لأن النظام النيوليبرالي كان قد فكك مسبقاً مؤسسات الصحة والتعليم والضمان، ودفع النساء إلى مواجهة العنف دون أي حماية جماعية. وهكذا وجدت الميليشيات في الجسد النسائي أرضاً رخوة لاستكمال المنطق ذاته: منطق تسليع الحياة نفسها وتحويلها إلى مادة للنهب المنظّم.

هنا يتضح الترابط مع ما قدمه المقال الأول حول العنف الجنسي كأداة طبقية، فالإيديولوجيا النيوليبرالية لا تنتج العنف مباشرة، لكنها توفر لغته التبريرية. فهي تجعل الجريمة “حادثة فردية”، وتفصل العنف عن جذره الطبقي عبر خطابين متناقضين يخدمان الغاية نفسها: خطاب أبوي يحمّل النساء “العار”، وخطاب فرداني يحمّل الضحايا مسؤولية “عدم الحذر”. وبذلك يتحول انتهاك الجسد إلى واقعة لا سياسية، بينما هو في الحقيقة إحدى آليات إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية داخل الأسرة والمخيم ومعسكر السيطرة.

يمتد التحليل إلى ما قدّمه المقال الثاني حول المخيمات كمعسكرات عمل، لأن النيوليبرالية تنتج ليس فقط المخيمات، بل الفلسفة التي تجعل المخيمات ممكنة. فهي تعيد صياغة الإغاثة كمنحة، والفقر كعيب، والعمل غير المدفوع كمسؤولية شخصية، ما يسمح بتحويل المخيم إلى مصنع لإعادة إنتاج قوة عمل رخيصة. وتتحمل النساء القسط الأكبر من هذا الاستنزاف، لأن وظائف الرعاية اليومية تتحول إلى شرط لاستمرار السوق الأسود ودوائر النهب. ويكشف هذا الارتباط أن المخيم ليس انقطاعاً عن النظام القديم بل امتداداً له، وأن اقتصاد الحرب ليس سوى الوجه المسلّح للنيوليبرالية التي سبقته.

هذا الإطار يرتبط أيضاً بما قدمه المقال الثالث حول الأسرة كموقع إنتاج، لأن النيوليبرالية تفكك البنى الجماعية وتعيد توطين العمل المنزلي في الفرد، ما يجعل النساء ينتجن الغذاء والرعاية وتنظيم الحياة اليومية دون أجر ودون اعتراف. وهذا الموقع يصبح نقطة تلتقي فيها قوى السوق الأسود مع الميليشيات، لأن العمل المنزلي غير المرئي يتحول إلى جزء من الآلة التي تحفظ استمرار النظام الميليشياوي دون تكلفة على الطبقة الحاكمة.

وتبرز الإيديولوجيا النيوليبرالية بأشد صورها فجاجة في تعامل المؤسسات الدولية مع الحرب، إذ تقدّم خطاباً حقوقياً يطالب بحماية النساء، بينما تستمر في تمويل برامج “التنمية” التي تفكك شبكات الحماية نفسها. وهكذا تتحول حقوق النساء إلى مشروع قابل للقياس والتقييم، منفصل عن الصراع الطبقي الذي أنتج القمع. وهذا التناقض يمنح البرجوازية العسكرية غطاءً كاملاً: فالحرب تظهر كأزمة إنسانية لا كبنية استغلال، والنساء يظهرن كمستفيدات محتملات لا كفاعلات في مقاومة طبقية.

وتتجلى نقطة التصدع في التشققات التي تفتحها النساء أنفسهن داخل هذا المنطق. ففي الفاشر ونيالا، تبني مجموعات مثل تجمع نساء دارفور للعدالة وتحالف نساء النيل الأزرق شبكات صمود تربط بين العمل اليومي في المخيمات وبين التنظيم السياسي. تتحول المطابخ الجماعية والتعاونيات الصحية والتعليم الطوعي إلى مؤسسات مقاومة تنقضّ على منطق السوق لأنها تعيد تعريف الرعاية كحق جماعي، وتربط إعادة الإنتاج الاجتماعي بالتحرر الطبقي. وتبرز هنا العلاقة العضوية مع لجان المقاومة التي تطور نماذج التنظيم الشعبي، لأنها تمثل الشكل السياسي لشبكات الصمود التي نشأت في المخيمات، حيث تتحول المقاومة اليومية إلى بنية واعية قادرة على كسر عزلة الأفراد وخلق قوة جماعية.

من هنا يتضح أن النيوليبرالية ليست إطاراً فكرياً طارئاً، بل هي العقل الذي يبرر الحرب ويسمح للعنف بأن يُرى كقدر، وللفقر بأن يُختزل في الفرد، وللجسد بأن يتحول إلى سلعة أو عبء أو رمز منزوع السياسة. ومهمة النسوية الطبقية في السودان هي إعادة الجسد إلى موقعه بوصفه وحدة إنتاج وإعادة إنتاج، ونزع القرار عن السوق بوصفه منظّم المجتمع، واستعادة الحرية خارج منطق الربح. وكما كتبت روزا لوكسمبورغ، “الحرية دائماً هي حرية من يفكرون بطريقة مختلفة”، وفي السودان لن تُنتزع هذه الحرية ما لم تُفكك الإيديولوجيا التي تصنع الطاعة وتبرر الهيمنة وتعيد إنتاج القمع بأدوات جديدة.

النضال مستمر،،