الأم المصرية ، وولدها



حسن مدبولى
2025 / 12 / 14

في سجل الذاكرة المصرية، لا تُخلَّد الأسماء وحدها، بل تُخلَّد الأمهات اللواتي حملن الغياب على أكتافهن ومشين به في العلن، بلا صخب، من بين هؤلاء، تقف والدة الشهيد يوسف جمال—أحد شهداء الزمالك العشرين—بوصفها شاهدًا إنسانيًا على مأساةٍ لم تُغلق، وجرحٍ ظل مفتوحًا لأن العدالة لم تُغلق صفحته بعد.

وقعت مأساة شهداء الزمالك حين تحوّل الذهاب إلى مباراة كرة قدم إلى رحلة بلا عودة، وسقط عشرون شابًا في واقعةٍ هزّت الضمير العام، لا بسبب عدد الضحايا فقط، بل لأن الضحايا كانوا أبناء لحظة عادية لاتطاحن فيها ولا تعصب أو تطرف أو تربص ووعيد ، حلمهم كان بسيطا، وعودتهم كانت مفترضة وطبيعية للغاية، ومنذ ذلك اليوم، لم تعد القضية خبرًا موسميًا بل صارت اختبارًا دائمًا لذاكرة المجتمع، وقدرته على مقاومة النسيان.

في قلب هذا الاختبار، حضرت الأم. لم تكن خطيبة مفوهة ، ولا ناشطة بالمعنى التنظيمي، لكنها كانت ضميرًا يمشي على قدمين،كل عام، تعود حاملة صورة ابنها، مُصرّة على الموعد ذاته، والطقس ذاته، والصمت ذاته. حضورها لم يكن احتجاجًا صاخبًا، بل تذكيرًا هادئًا بأن الشهداء لهم أمهات، وأن الفقد لا يشيخ.

أما القميص الملطخ بالدم—الذي اعتادت وضعه على رأسها—فلم يكن تفصيلًا عابرًا. كان أثرًا ماديًا ليومٍ لا ينتهي، ورمزًا قاسيًا لعدالةٍ معلّقة. لم ترفعه لتُدهش أحد ، بل لتُذكّر الجميع أن الدم لا يجف حين لا تُغلق الأسئلة. وبهذا القميص، حوّلت هذه الأم العظيمة حزنها الخاص إلى ذاكرة عامة، دون أن تنطق باتهام، ودون أن تساوم على وجعها.

رحيلها اليوم إلى خالقها العادل لا يُنهي الحكاية؛ بل يُحمّل تلك الحكاية الدامية مسؤولية جديدة، فالأم التي عاشت على الذكرى لحقت بابنها، تركت لنا الاختيار كاملًا: هل ستبقي أسماء الشهداء الأبرياء حيّةفى ذاكرة المصريين ، أم سيكتفي الجميع بصورةٍ تهتزّ وتخفت ثم تُطوى؟
هل سيذكر التاريخ الشهداء بكل قصصهم كرقمٍ في أرشيف، أم كأبناءٍ كانت لهم أمهات ينتظرن عودتهم ؟

إن تخليد ذكرى تلك السيدة لا يكون بمرثية عابرة، بل بأن تُذكر قصتها كلما ذُكرت تلك الليلة، وأن يُقال بوضوح إن العدالة المتأخرة لا تُداوي، وإن الذاكرة حين تُهمَل تتحوّل إلى شراكة في النسيان. هذه الأم لم تطلب سوى ألا يُنسى ابنها. أقلّ الوفاء أن نُبقي الوعد حيًّا: ألا ننسى شهداء الزمالك العشرون أو غيرهم ، وألا ننسى أمٌّ عظيمة حَرَست الذكرى وحرصت على بقائها حتى آخر العمر.