|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |

أحمد سليمان
!--a>
2025 / 12 / 19
يطرح تعميم وزارة العدل رقم (17) لعام 2025 إشكالية قانونية عميقة تتجاوز الجانب الإجرائي الذي يستند إليه، لتلامس جوهر العدالة والإنسانية في التشريع السوري، ولا سيما في ما يتعلق بحقوق الطفل ودور الأم في رعايته وحمايته.
جوهر الإشكالية:
التعميم يكرّس فهمًا تقليديًا جامدًا للولاية على نفس القاصر، يقوم على حصرها بسلسلة من الأقارب الذكور (العصبات) وفق ترتيب طويل قد يصل إلى أبناء العمومة البعيدين، في حين يُستبعد دور الأم كليًا من الولاية التلقائية، حتى في حالات غياب الأب أو فقدانه أو تعذّر قيامه بواجباته.
هذا الترتيب لا يستند إلى معيار المصلحة الفضلى للطفل، بل إلى منطق القرابة الذكورية المجردة، متجاهلًا واقعًا اجتماعيًا وإنسانيًا بات سائدًا في سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب، حيث أصبحت آلاف الأمهات المعيل الوحيد والمسؤول الفعلي عن أبنائهن نتيجة الوفاة، الاعتقال، الاختفاء القسري، اللجوء، أو التفكك الأسري.
البعد الإنساني والاجتماعي:
يبدو التعميم منفصلًا عن السياق السوري الراهن، الذي شهد تفككًا واسعًا في العلاقات الزوجية والأسرية، ليس فقط لأسباب اجتماعية واقتصادية، بل أيضًا بسبب الانقسامات السياسية الحادة التي فرضتها الحرب القهرية على المجتمع، وما رافقها من اختلافات في المواقف والانتماءات، أدت في حالات كثيرة إلى قطيعة فعلية بين الأزواج دون قدرة على تسوية قانونية أو قضائية.
في هذا السياق، لا يقتصر أثر التعميم على إقصاء الأم قانونيًا، بل يفتح عمليًا الباب أمام ابتزازها. إذ يُجبرها على المرور عبر وليّ ذكوري بديل، قد يكون أخًا أو عمًا أو قريبًا بعيدًا، لا تربطه بالطفل علاقة رعاية حقيقية، وإنما تمنحه النصوص سلطة قانونية على قرارات مصيرية تتعلق بالسفر، أو العلاج، أو التعليم، أو حتى الإجراءات الإدارية اليومية.
علاقة قوة غير متكافئة:
هذا الوضع يخلق علاقة قوة غير متكافئة، تُستخدم أحيانًا للضغط المادي، أو لفرض شروط اجتماعية أو سياسية، أو لمقايضة حق الطفل في التنقل أو الأمان بتنازلات لا علاقة لها بمصلحته. والأخطر أن هذا الابتزاز لا يجري خارج إطار القانون، بل يستند إليه، ما يحوّل النص القانوني من أداة حماية إلى أداة هيمنة.
البعد الحقوقي الدولي:
حقوقيًا، يتعارض هذا التوجه مع المبادئ العامة للعدالة، ومع جوهر فلسفة الولاية بوصفها مسؤولية رعاية لا امتيازًا ذكوريًا، كما يتناقض مع الالتزامات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، والتي تؤكد على عدم التمييز، وعلى أولوية المصلحة الفضلى للقاصر، وعلى ضرورة النظر إلى الواقع الفعلي للرعاية لا إلى الشكل المجرد للقرابة.
التجربة اللبنانية: مرآة قريبة للسياق السوري
لا يمكن إغفال التشابه مع التجربة اللبنانية، حيث عانى لبنان أيضًا من حرب مدمرة تركت آثارًا عميقة على الأسرة، وأدت إلى غياب أو فقدان آلاف الآباء. في هذا السياق، واجهت الأمهات اللبنانيات إشكاليات مشابهة تتعلق بالوصاية والولاية، إذ تخضع هذه المسائل لقوانين الأحوال الشخصية الطائفية التي غالبًا ما تستبعد الأم من الولاية التلقائية، وتمنحها للأقارب الذكور وفق تسلسل قرابي جامد.
هذا الوضع خلق حالات ابتزاز مشابهة، حيث اضطرت الأمهات إلى التفاوض مع أولياء ذكور لا علاقة لهم بالرعاية الفعلية، مما أدى إلى ضغوط اجتماعية ومادية وسياسية على حساب مصلحة الطفل. ومع ذلك، شهد لبنان خلال العقدين الأخيرين نقاشات حقوقية واسعة، دفعت بعض الطوائف إلى مراجعة جزئية لدور الأم في الوصاية، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية إصلاح مشابه في سوريا إذا ما أُعيد النظر في فلسفة الولاية.
الرؤية المستقبلية:
إن تحويل الولاية إلى تسلسل وراثي ذكوري في بلد خرج مثقلًا بجراح الحرب والفقد والانقسام، لا يمكن اعتباره إجراءً تنظيميًا محايدًا أو تقنيًا، بل هو اختيار تشريعي إقصائي يُعيد إنتاج الظلم داخل الأسرة، ويقوّض فرص التعافي الاجتماعي، ويهدد السلم الأهلي بدل أن يحميه.
من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى مراجعة هذا التعميم مراجعة جذرية، تُعيد الاعتبار لدور الأم، وتربط الولاية بمعايير الرعاية الفعلية والكفاءة والمسؤولية، لا بالجنس أو العصبية، وتضع الطفل في قلب النص القانوني، لا في هامشه.
وعليه، فإن إلغاء هذا القرار الصادر بتاريخ 30/03/2025 يُعدّ ضرورة قصوى، ليس فقط احترامًا للمصلحة الفضلى للطفل، بل أيضًا تكريمًا لنضال المرأة السورية طيلة سنوات الثورة وقبلها، وإقرارًا بدورها التاريخي في حماية الأسرة والمجتمع.
* ينُشر في وقت واحد بالتزامن مع نشطاء الرأي