|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |

علا مجد الدين عبد النور
!--a>
2025 / 12 / 21
لم يكن الحديث عن الجنس في الثقافة العربية الإسلامية القديمة فعلاً فاضحًا ولا خروجًا عن الذوق العام، بل كان جزءًا أصيلاً من المعرفة الإنسانية، يُتناول بوصفه علمًا متصلًا بالفقه، واللغة، والطب، والحياة اليومية.
كتب جلال الدين السيوطي، أحد كبار علماء القرن الخامس عشر، مؤلفات صريحة في النكاح والمعاشرة، مثل «الوشاح في فوائد النكاح»، دون أن يشعر بحاجة إلى التبرير أو الاعتذار. لم يكن ذلك لأن المجتمع كان منفلتًا، بل لأن الجسد لم يكن بعدُ محاصرًا بالخجل المرضي.
نظر السيوطي ومن عاصروه إلى المعرفة الجنسية باعتبارها جزءًا من اكتمال الإنسان. فالمعاشرة الزوجية لم تكن مجرد وظيفة إنجابية، بل علاقة إنسانية قائمة على المتعة المتبادلة والحقوق المشتركة. لذلك كتب الفقهاء عن آداب النكاح، وكتب اللغويون عن ألفاظه، وكتب الأطباء عن تأثيره في الصحة النفسية والجسدية، وكتب الأدباء عن الحب والرغبة بلا وجل. لم يكن في ذلك ما يُخجل، لأن المعرفة كانت تُفصل بوضوح عن الابتذال.
ولم يكن السيوطي استثناءً في هذا السياق. فقد تناول ابن حزم في «طوق الحمامة» الحب بوصفه تجربة إنسانية عميقة، وخصص الغزالي في «إحياء علوم الدين» فصولًا كاملة لآداب النكاح وضبط الشهوة، وكتب النفزاوي «الروض العاطر» كدليل يجمع بين الطب والمتعة، بينما قدّم التيفاشي والشربيني نصوصًا أدبية واجتماعية جريئة ترصد علاقة الناس بأجسادهم ورغباتهم.
هذا التراث الواسع يكشف أن الصراحة الجنسية كانت جزءًا من نسيج ثقافي طبيعي، لا مصدر فزع أو خوف. لكن هذا المسار لم يستمر. فمع تراجع الازدهار الحضاري وصعود عصور الجمود، بدأ الجسد يُعاد تعريفه بوصفه مصدر خطر أخلاقي لا موضوع معرفة. تحوّل الجنس تدريجيًا من علم يُدرّس ويُناقش، إلى سرّ يُخفى، ثم إلى عيب يُدان. لم يعد السؤال مسموحًا، وصار الصمت فضيلة، وتحوّلت المعرفة إلى همس مشوب بالخجل.
مع الاحتكاك بالغرب في القرن التاسع عشر، بدأت النخب العربية تحت ضغط الاستعمار بتبنّي منظومة أخلاقية محافظة. لم يكن هذا التحوّل عودة إلى الدين، بقدر ما كان محاولة لإثبات «التحضر» وفق معايير الآخر. وهكذا فُرضت رقابة جديدة على التراث نفسه، وصُنفت مؤلفات السيوطي مثل «نواضر الأيك» ضمن كتب الإمتاع لا كتب العلم، وتم تهميشها أو التحذير منها، ليس لأنها تخالف الدين، بل لأنها تتعارض مع الصورة الجديدة للأخلاق العامة.
في القرن العشرين، دخل عامل أكثر حدة على الساحة، وهو تسييس الجسد. مع صعود الحركات الأصولية، أصبحت الأخلاق الجنسية ساحة لإثبات الهوية ومقاومة ما اعتُبر انحلالًا غربيًا. لم يعد الجسد شأنًا إنسانيًا أو صحيًا بحتًا، بل رمزًا سياسيًا، وأصبحت المرأة محور هذا الصراع، تُصور كمصدر فتنة يجب ضبطها، وتحولت السيطرة على جسدها إلى أداة لإحكام النظام الأبوي وإعادة إنتاج الطاعة. وقد ساهمت الصحوات الدينية في الثمانينيات في زيادة التركيز على الفضيلة والتكتم حول الجنس، حيث دفعت نحو التمسك بالقيم الدينية المحافظة التي تشدد على العفة والحياء، مما زاد من الضغط المجتمعي والديني لكبت الحديث عن الجنس والتركيز على الصورة المثالية للفضيلة. هذا التوجه لم يكن مقصورًا على الإسلام فقط، بل امتد أيضًا إلى التيارات المسيحية المحافظة، التي سعت للتمسك بالقيم التقليدية، فخلق ذلك مناخًا عامًا من المحافظة الأخلاقية، كما اعتبرت هذه الحركات أن أي انفتاح على قضايا الجنس قد يقود إلى الانحلال.
في هذا السياق، ساد نوع من الارتباك في الوعي الديني الحديث أمام صراحة النصوص المقدسة والتراثية، حيث بدأ البعض يشعر بالحرج من الألفاظ التي تتناول الجسد بوضوح. ففي الوقت الذي يرى فيه الوجدان الإسلامي التقليدي في مصطلحات مثل «الحرث»، «المباشرة»، و«الرفث» كنايات بليغة تؤطر العلاقة في سياق تشريعي وإنساني، بدأ بعض النقاد المتأثرين بالنزعات المادية أو الأخلاقيات المتزمتة يرون في هذا التفصيل التشريعي إغراقاً في الدنيوي. وفي المقابل، تعرضت نصوص مثل «نشيد الأناشيد» لنوع من الرقابة الأخلاقية الحديثة؛ فبعد أن كان يُقرأ كاستعارة روحية وعاطفية عميقة، صار البعض ينظر إلى صوره الغزلية الفائضة بالشهوة بعين الريبة، معتبرين أن لغته الحسية لا تتناسب مع مقتضيات القداسة المعاصرة. هذا الحرج المشترك بين أتباع الديانات يعكس تحولاً جذرياً؛ حيث انتقل النص الديني من كونه مرآة لطبيعة الإنسان وجسده، إلى نص يُراد منه الانفصال عن الواقع البيولوجي لصالح صورة ذهنية مجردة وشديدة التحفظ.
تبعا لذلك، لم يكن غريبًا أن تختفي الثقافة الجنسية من المدارس. فالمجتمع الذي يخاف من تسمية الأشياء بأسمائها، لا يستطيع أن يعلّم أبناءه كيف يحمون أجسادهم. غابت التربية الجنسية بحجة الحياء، بينما تُرك الأطفال يتلقون معلوماتهم من مصادر مشوهة أو عنيفة. تحوّل الخوف من إثارة الفضول إلى مبرر للصمت، رغم أن هذا الصمت ذاته هو ما يفتح الباب للتحرش والاعتداء وسوء الفهم.
واليوم، نحن أمام مفارقة صارخة، بتراث صريح يعترف بالجسد ويمنحه مكانته الإنسانية، وواقع تعليمي يتعامل مع الجنس كعار. من السيوطي إلى المدرسة، ضاعت المعرفة في الطريق، وحلّ محلها الخجل والوصاية. لم يعد السؤال: هل نعلّم أبناءنا الثقافة الجنسية؟
بل، كم من الأذى سنحتاجه بعد، قبل أن نعترف أن الصمت لم يحمِ أحدًا، وأن المعرفة ليست عيبًا، بل حق، وربما ضرورة للحياة.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك