|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |

عماد حسب الرسول الطيب
!--a>
2025 / 12 / 22
تتشكل لجان المقاومة النسوية في المخيمات والأحياء المحاصرة بوصفها استمراراً مادياً لتحول السياسة من فعل احتجاجي ظرفي إلى بنية تنظيمية يومية، حيث لا تُمارس السياسة هنا بوصفها خطاباً أو تمثيلاً رمزياً، بل بوصفها إدارة جماعية للحياة في مواجهة اقتصاد الحرب. تتحول هذه اللجان إلى أداة طبقية لإعادة بناء السياسة من تحت الأنقاض، حيث تُمارس النساء الديمقراطية المباشرة ليس كخيار نظري بل كشرط للبقاء. هذه اللجان ليست امتداداً للدولة المنهارة، بل هي نقيضها المادي – فهي تنبثق من رفض منطق الحرب واقتصاد النهب، وتُشكّل إطاراً تنظيمياً يجسّد السلطة الشعبية في مواجهة سلطة الميليشيات.
تنبثق هذه اللجان من قلب الضرورة، حين تكتشف النساء أن البقاء نفسه لا يمكن ضمانه فردياً، وأن غياب الدولة ليس فراغاً محايداً بل انسحاباً متعمداً لصالح سلطة الميليشيا والسوق الأسود. تنشأ اللجان كتطور طبيعي لشبكات المقاومة اليومية التي تناولناها في المقال التاسع. تتكون هذه اللجان من نساء ينتمين في الغالب إلى البروليتاريا الحضرية والريفية المفقرَة، ممن راكمن خبرات تنظيمية سابقة في لجان المقاومة خلال ثورة ديسمبر، أو اكتسبن وعياً سياسياً قسرياً عبر النزوح، فقدان العمل، والعنف المباشر. فالمطبخ الجماعي الذي بدأ كحل لأزمة الغذاء، يتحول إلى خلية قرار جماعي عندما ترفض النساء الاكتفاء بتوزيع الطعام وتبدأ في مناقشة كيفية مواجهة سماسرة الميليشيات، أو كيفية تنظيم إضراب عن شراء السلع المسعّرة بأسعار مضاعفة.
لا تبدأ هذه اللجان ببرنامج أيديولوجي جاهز، بل بسؤال عملي: كيف نؤمن الطعام، الماء، الدواء، والحماية؟ لكن هذا السؤال سرعان ما يتحول إلى سؤال سياسي، لأن تنظيم هذه الاحتياجات يضع النساء في مواجهة مباشرة مع منطق السوق والسلطة المسلحة. هنا، يتحول الفعل التنظيمي من إدارة أزمة إلى ممارسة سلطة مضادة، تتحدى احتكار القرار والعنف. هذا التحول من "التنظيم للبقاء" إلى "التنظيم للمقاومة" هو قفزة نوعية في الوعي الطبقي، حيث تكتشف النساء أن مشاكلهن الفردية ليست قدراً بل نتيجة لبنية استغلالية، وأن الحل ليس في الانتظار بل في التنظيم الجماعي.
تُعيد لجان المقاومة النسوية تعريف السياسة عبر نقلها من فضاء الشعارات إلى فضاء العمل اليومي. فالاجتماعات التي تُعقد لتقسيم الغذاء أو تنظيم نوبات الحراسة أو التفاوض مع المنظمات الإنسانية، هي في جوهرها مجالس سياسية مصغرة، تُتخذ فيها قرارات جماعية تمس حياة المئات. تعمل هذه اللجان عبر مبدأين ثوريين: الديمقراطية المباشرة والمساءلة الدائمة. ففي لجان مقاومة حي "أم درمان القديمة" المحاصرة، تجتمع النساء أسبوعياً، يناقشن أوضاع الحي، تتخذ قرارات جماعية حول توزيع الأدوار، وتُجدد القيادات دورياً عبر الانتخاب المباشر. هذا النموذج يُحطّم ثلاثة أساطير دفعة واحدة: أن السياسة تحتاج "خبراء"، أن النساء "غير مؤهلات" للقيادة، وأن الديمقراطية "ترف" في زمن الحرب. بل يثبت أن الديمقراطية هي ضرورة حيوية للمجتمعات المهددة.
تتحدى هذه اللجان النسوية البرجوازية التي حللناها في المقال السادس. فبينما تبحث النسوية البرجوازية عن "تمثيل" في مؤسسات الدولة والمؤتمرات الدولية، تبني لجان المقاومة النسوية سلطة موازية من الأسفل. بينما تتحدث النسوية البرجوازية عن "الكوتا" و"التمكين الاقتصادي" ضمن النظام القائم، تطالب لجان المقاومة بإسقاط اقتصاد الحرب وإعادة توزيع الثروة. الفارق هنا ليس تكتيكياً بل طبقي وجذري: إما نسوية تبحث عن موقع في النظام الطفيلي، وإما نسوية تهدف إلى تحطيم هذا النظام. النساء في المخيمات يخترن الخيار الثاني، لأن تجربتهن المباشرة مع العنف والجوع تُظهر لهن أن النظام لا يمكن إصلاحه بل يجب تفكيكه.
تدخل هذه اللجان في صراع متعدد المستويات. فهي تصطدم بالميليشيات التي ترى في أي تنظيم مستقل تهديداً مباشراً لاقتصاد النهب، وتصطدم بالمنظمات الدولية التي تفضل التعامل مع أفراد أو “قادة محايدين” لا مع لجان جماعية مسيّسة، وتصطدم أيضاً بالبنى الأبوية داخل المجتمع نفسه، التي تحاول إعادة النساء إلى موقع الطاعة باسم العرف أو الدين. ترتبط هذه اللجان عضوياً باقتصاد الحرب الذي حللناه في المقال الرابع. فكثير من نضالاتها تتركز ضد اقتصاد الابتزاز الذي تمارسه الميليشيات. في مخيم "الريفي" في كسلا، نظمت لجنة مقاومة نسوية مقاطعة جماعية للتجار المرتبطين بالميليشيات، وأقامت بدلاً منها سوقاً شعبية تُدار ذاتياً. في حي "الملازمين" في أمدرمان، نظمت اللجنة إضراباً عن دفع "الضرائب" التي تفرضها الميليشيات على المنازل.
يتعمق الطابع الطبقي لهذه اللجان في كونها لا تفصل بين القهر الجندري والقهر الاقتصادي. فالعنف الذي تواجهه النساء لا يُفهم هنا كمسألة “نوع اجتماعي” مجردة، بل كأداة لإخضاع قوة العمل وضمان إعادة إنتاجها في شروط أكثر قسوة. لذلك، تطرح هذه اللجان مطالب تتجاوز الحماية من العنف إلى السيطرة على شروط الحياة نفسها: من يقرر توزيع الموارد؟ من يحدد أولويات العمل؟ من يتحدث باسم المخيم أو الحي؟ هذه الأسئلة هي أسئلة سلطة، وتضع اللجان النسوية في موقع نقيض جذري للدولة الميليشياوية وللنسوية البرجوازية على حد سواء.
تتعرض هذه اللجان لأشد أشكال القمع. فالميليشيات ترى فيها تهديداً وجودياً، ليس لأنها تملك السلاح، بل لأنها تملك ما هو أخطر: التنظيم والشرعية الشعبية. تقارير من دارفور توثق كيف أن الميليشيات تستهدف قيادات هذه اللجان بالاختطاف والاغتصاب والقتل، خاصة إذا كنّ ينظمن مقاطعات اقتصادية أو يوثقن انتهاكات. الدولة الميليشياوية لا تريد "معارضة" يمكن استيعابها في لعبة السياسة التقليدية، بل تريد شعباً مذعوراً منعزلاً. هذا الصراع لا يُدار بالسلاح، بل بالقدرة على الصمود التنظيمي، وبخلق شرعية بديلة قائمة على تلبية الحاجات الفعلية للناس. حين تنجح لجنة نسوية في تنظيم توزيع الغذاء أو حل نزاع داخل المخيم، فإنها تُقوّض عملياً شرعية السلطة المسلحة.
ترتبط لجان المقاومة النسوية عضوياً بأشكال المقاومة الأخرى التي تناولناها في المقال التاسع. فالمطابخ الجماعية وشبكات التعليم الشعبي لا تعمل بمعزل عن هذه اللجان، بل تُدار غالباً عبرها، ما يجعلها مراكز تنسيق للحياة اليومية. ومع تراكم الخبرة، تتحول بعض هذه اللجان إلى نوى لمجالس أوسع، تضم رجالاً ونساءً، لكنها تحتفظ بقيادة نسوية بحكم الموقع المركزي للنساء في إعادة الإنتاج الاجتماعي. هذا التحول لا يعني ذوبان البعد النسوي، بل تعميمه طبقياً، حيث تصبح قضية النساء مدخلاً لإعادة بناء السياسة من الأسفل.
تكمن خطورة هذه اللجان، من منظور السلطة، في أنها تُنتج وعياً عملياً لا يمكن احتواؤه بسهولة. فالنساء اللواتي ينظمن المخيم أو الحي يكتشفن أن الفقر ليس قدراً، وأن غياب الخدمات ليس نتيجة “فشل الدولة” بل خياراً طبقياً يخدم اقتصاد الحرب. هذا الوعي لا يُصاغ في بيانات نظرية، بل في ممارسات يومية تُعيد تعريف الممكن. ولهذا، تُستهدف اللجان النسوية بالقمع أو الاحتواء أو التشويه الإعلامي، وتُتهم بالتسييس أو العمالة أو الإخلال بالأمن، لأن وجودها يفضح زيف الخطاب الإنساني المحايد.
لكن استمرار هذه اللجان رغم القمع هو أكبر دليل على فشل اقتصاد الحرب. فكما كتب لينين: "لا توجد قوة في العالم قادرة على سحق إرادة البروليتاريا المنظمة". في السودان اليوم، تُترجم هذه الإرادة إلى لجان مقاومة ترفض الخضوع، وتعيد تعريف القوة لا كقدرة على القتل بل كقدرة على التنظيم. النساء اللواتي كن يُعتبرن "الطرف الأضعف" في الحروب التقليدية، يتحولن اليوم إلى طليعة المقاومة، لأن موقعهن في أسفل الهرم الاجتماعي يمنحهن الرؤية الأوضح لفساد النظام.
المهمة الآن هي ربط هذه اللجان المتناثرة في شبكة وطنية، وتحويل نضالاتها المحلية إلى برنامج تحرري شامل. فكما بدأت الثورة الروسية بالسوفييتات (المجالس العمالية)، وبدأت الثورة الإسبانية بالكوميونات، يمكن أن تبدأ ثورة السودان بلجان المقاومة في المخيمات والأحياء. هذه اللجان ليست مجرد رد فعل على الحرب، بل هي مختبرات للمستقبل، حيث تُختبر أفكار الديمقراطية المباشرة، والتسيير الذاتي، والمساواة الجذرية. يُظهر هذا التحليل أن لجان المقاومة النسوية ليست مجرد استجابة ظرفية للحرب، بل مختبراً سياسياً لإعادة بناء السلطة على أسس جديدة. فهي تُحوّل العمل غير المرئي إلى قوة سياسية، وتربط بين الجسد والتنظيم، وبين البقاء والتحرر.
كما كتبت ألكسندرا كولونتاي: «تحرر النساء لا يتحقق عبر إصلاحات من فوق، بل عبر مشاركتهن المباشرة في إعادة تنظيم المجتمع». في السودان اليوم، تُجسّد لجان المقاومة النسوية هذه الحقيقة، بوصفها بذور سياسة جديدة تنمو في قلب المعسكرات والأحياء، وتعلن أن إعادة بناء المجتمع تبدأ من حيث حاولت الحرب تدميره. الثورة الحقيقية لا تأتي من فوق بل من تحت، ولا تبدأ ببيانات بل بلجان مقاومة تنتظم في خيمة، وتتخذ قراراً جماعياً، وتنفذه بأيديها.
النضال مستمر،،
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
|
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|