11. الإضراب النسوي: الهجوم الطبقي على عصب اقتصاد الحرب الخفي



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 24

يكتسب الإضراب النسوي أبعاداً تتجاوز المفهوم التقليدي للتوقف عن العمل المأجور، لينتقل إلى مربع الهجوم المباشر على ركائز اقتصاد الحرب الذي تقتات عليه البرجوازية الميليشياوية. إن هذا الفعل الثوري ليس مجرد احتجاج قيمي، بل هو ممارسة مادية تهدف إلى سحب الشرعية الاقتصادية عن نظام يبني تراكمه الرأسمالي عبر استنزاف القيمة الفائضة من أجساد النساء ووقتهن وعملهن غير المأجور في المنازل ومعسكرات النزوح. إن الحرب في جوهرها ليست صراعاً بين بنادق فحسب، بل هي آلية لاستخراج الربح من بؤس البروليتاريا والنساء الكادحات، حيث يصبح صمت الأواني الفارغة ورفض إعداد الطعام للمقاتلين سلاحاً طبقياً يضرب صميم "الشحم" الذي يشحم تروس آلة العنف، وهو العمل الرعائي المجاني الذي يفترض النظام استمراره كحق مكتسب لا يتزعزع.

تتجلى عبقرية التحليل الماركسي في فهم أن الرأسمالية الإمبريالية، كما وصفتها روزا لوكسمبورغ، تعيش على نمطين من الاستغلال: استغلال العمل المأجور في مراكز الإنتاج، واستغلال المحيط غير الرأسمالي والعمل المنزلي لإعادة إنتاج قوة العمل بأقل التكاليف. وفي الحالة السودانية، يتحول هذا الاستغلال إلى وقود مباشر للصراع المسلح، حيث تُجبر النساء في المجتمعات المحاصرة على أداء أدوار ثلاثية (إنتاجية، تناسلية، ورعائية) تشكل الأعمدة الخفية للاقتصاد الموازي الذي يمول الميليشيات. إن تحويل المنازل إلى ورش صيانة أو مخازن سلاح قسرياً، واستغلال شبكات الجيرة لتوزيع المنهوبات، يمثل قمة التوحش الرأسمالي الذي يستخرج "فائض القيمة" من المصيبة ذاتها، محولاً الأسرة والروابط الاجتماعية إلى آليات ضريبية عينية لتمويل أمراء الحرب الذين يبنون حساباتهم الربحية على فرضية أن هناك نساء سيقمن دوماً، وبالمجان، بترميم ما تدمره آلة الحرب من بشر وحجر.

إن فعل الرفض الذي تمارسه النساء السودانيات اليوم، من إضراب الصمت عن نقل المعلومات إلى إضراب الإنجاب ومقاومة ضغوط التكاثر لتعويض خسائر الميليشيات، يمثل "حرب مواقع" غرامشية في أعمق تجلياتها المجتمعية. عندما تقرر النساء في معسكرات النزوح، كما حدث في "كلمندو"، التوقف عن طهي الطعام للقوات المتحاربة، فإنهن ينتقلن من دور الضحية إلى دور الفاعل التاريخي الذي يعي موقعه الطبقي في عملية الإنتاج الحربي. هذا الإضراب النسوي الفقير يختلف عن النسويات الليبرالية الغربية بكونه صراعاً وجودياً ضد القمع المزدوج: قمع الميليشيات التي تستخدم العنف، وقمع البنى التقليدية التي تستخدم الدين والعرف لشرعنة استعباد النساء. إن الرفض الجماعي هنا هو تحطيم للصورة الزائفة عن "الصمود" التي تروج لها المنظمات الدولية، ليكشف أن ما يسمى مرونة هو في الحقيقة نظام استغلال منظم، وكما أكد فرانز فانون، فإن المستعمر لا يمتدح صمود المستعمرين إلا عندما يضمن بهذا الصمود استقرار منظومة النهب.

يتطلب الانتقال من تكتيكات الرفض اليومي إلى الاستراتيجية الثورية بناء "بنية تحتية للمقاومة" تعيد تعريف العمل وقيمته، حيث يتحول المطبخ الجماعي وبنك الطعام السري إلى وحدات لسيادة غذائية مصغرة تدار خارج سلطة السوق الميليشياوي. إن إنشاء تعاونيات إنتاجية وشبكات تضامن مالية يعتمد على مدخرات الكادحات هو التطبيق العملي لدعوة ألكسندرا كولونتاي لجماعية الأعمال المنزلية، وهو فعل يهدف إلى تجفيف مستنقع الحرب عبر قطع الخيط السري الذي يربط المجتمع المنهوب بآلة النهب. إن المطالبة بإلغاء "ضرائب الحرب" العينية والاعتراف بالعمل المنزلي كعمل منتج هو جوهر البرنامج الطبقي النسوي الذي نادت به كلارا زيتكين، وهو المسار الوحيد لضمان أن السلام القادم لن يكون مجرد هدنة بين ذكور مسلحين يقتسمون الغنائم، بل تحولاً جذرياً في علاقات الإنتاج التي تمنح الحق في الحياة لمن ينتجها فعلاً.

إن الإضراب النسوي في السودان هو فعل بقاء مسلح بوعي مادي، يثبت أن الحرب لا تستمر إلا بقدر استعداد النساء لإدارتها مجاناً، وأن سحب هذه البطاقة يعني انهيار البناء الواهي للاحتلال والميليشيا. إن القول للبرجوازية الميليشياوية "لن نشارك في تدمير أنفسنا بعد اليوم" هو الإبطال الأخلاقي والاقتصادي للنظام بأكمله، وهو الخطوة الأولى نحو استعادة الجسد والوقت من براثن التراكم الرأسمالي المسلح. من هذا الرفض المتجذر في الواقع اليومي، ومن صمود المضربات ضد الجوع والقمع، تبدأ معركة التحرر الحقيقية التي لا تكتفي بتغيير الوجوه، بل تقتلع جذور الاستغلال من أدق تفاصيل الحياة اليومية، مؤكدة أن الثورة الحقيقية هي التي تضع حداً لآلة الموت عبر تحرير العمل الرعائي من قيد "الواجب الفطري" الزائف.

"أولئك الذين لا يتحركون لا يلاحظون قيودهم".
روزا لوكسمبورغ.

النضال مستمر،،