أنيسة مثنّى اليافعي: سيرة نجاح تهزم الخرافة الاجتماعية



محسن عزالدين البكري
2025 / 12 / 26

في حديقة التواهي بمدينة عدن، وفي لحظة عابرة لا تحمل أي ترتيب أو معرفة مسبقة، كنت بين الحاضرين ولا أزال أحتفظ بتصوير من هاتفي للمشهد. كانت توزّع البالونات على الأطفال، تبتسم، وتتحرك بينهم بعفوية خفيفة، كأنها واحدة من الأمهات أو الجدّات اللواتي جئن فقط ليصنعن فرحًا صغيرًا في يوم عادي. خلال دقائق، امتلأت الحديقة بالضحك، وتحولت المساحة إلى مشهد بسيط من البهجة الإنسانية الصافية.
لم تكن تعرف من أنا في البداية، وتبادلنا حديثًا قصيرًا عندما سألتنا من أين نحن. قلت لها: "من يافع"، فذكرت هي منطقتها أيضًا، وبعد قليل من الحوار تأكدت أنها هي، وكان مشهد الحديقة والبالونات قد نُشر أيضًا في صفحتها الرئيسية لاحقًا.
لا شيء في حضورها أو سلوكها يوحي بأنها شخصية عامة أو سيدة أعمال معروفة. بساطتها، تواضعها، وحسّها الإنساني جعل كل من حولها يشعر براحة غير مصطنعة. من المستحيل أن تتوقع، وأنت تراها في هذا المشهد، أنها نفسها صاحبة الطاقة المتدفقة بالعفوية والبساطة، وأنها المرأة التي أثنى عليها الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي تقف خلف مسيرة صناعية واقتصادية لافتة في الولايات المتحدة.
تنتمي أنيسة مثنّى اليافعي إلى جبال يافع في اليمن، منطقة مجتمعها قبلي محافظ، حيث غالبًا ما يُقصي المرأة من المجال العام ويحاصرها في أدوار اجتماعية جاهزة، لا علاقة لها بالكفاءة أو القدرة. مجتمع لا زال يعتمد دليل رعاة الماعز من العصر البرونزي، حيث تُقدم الأعراف التقليدية على الطموح والإبداع. من هذا السياق الاجتماعي الصعب، خرجت قصة تنقض عمليًا كثيرًا من الخرافات الاجتماعية التي ما زالت تُقدَّم وكأنها حقائق أزلية، ولا يزال بعضهم يردد خرافة أن المرأة ناقصة عقل وأقل كفاءة، لكنها أثبتت عمليًا أن كل تلك الترهات لا أساس لها من الصحة.
وُلدت أنيسة عام 1969 في مدينة شيكاغو لأبوين يمنيين من مديرية يافع. بدأت العمل منذ صغرها في مصنع والدها، من أعمال بسيطة وصولًا إلى تشغيل المكائن الصناعية. غير أن مسيرتها لم تكن سهلة؛ فقد غادرت مصنع العائلة عام 1993 بسبب التمييز الذي واجهته كامرأة، وانتقلت للعمل مع خالها، مشترطة أن يكون لها دور إداري فعلي وكلمة مسموعة في اتخاذ القرار.
رغم صعوبة السوق والمنافسة الشرسة، نجحت في تطوير المصنع وتوسيعه. وفي عام 2012، ومع انتقال جزء كبير من الصناعات إلى الصين والهند، واجه المصنع تحديًا حقيقيًا. لكن بدل الانسحاب، استثمرت أنيسة أكثر من ستة ملايين دولار في تحديث المكائن، والتحول من التشغيل اليدوي إلى أنظمة تعتمد على البرمجة، الحاسوب، والروبوتات الصناعية.
هذا التحول مكّن المصنع من التعاقد مع شركات كبرى في مجالات السيارات والطيران والفضاء، من بينها تسلا وناسا. وخلال جائحة كوفيد-19، ساهم المصنع في تصنيع تجهيزات حديدية استُخدمت في المستشفيات الأمريكية، وهو ما دفع جو بايدن، قبل توليه الرئاسة، إلى الإشادة بدور المصنع والعاملين فيه.
حصلت أنيسة مثنّى على عدة جوائز، من أبرزها Woman Business Award عام 2017 وBusiness Awards عام 2019. ومع ذلك، فإن أكثر ما يلفت في قصتها ليس الأرقام ولا العقود، بل التناقض الجميل بين قوة الإنجاز وبساطة الروح، بين الصناعة الثقيلة وحسّ الخير الإنساني الذي يتجلّى في مشهد بسيط كمنح بالون لطفل في حديقة عامة.
قصة أنيسة مثنّى اليافعي ليست مجرد حكاية نجاح فردي، بل دليل واقعي على هشاشة الخرافة الاجتماعية التي ما زالت تحاول إقناعنا بأن المرأة أقل عقلًا أو قدرة. إنها سيرة تهزم هذه الخرافة بالفعل، لا بالشعارات، وتؤكد أن الإنسان يُقاس بما ينجزه، لا بما يُفرض عليه من قيود اجتماعية موروثة.
روحها المتواضعة، وعفويتها، وحسها العميق بالخير والإنسانية، تجعلها تفيض بالعاطفة تجاه الآخرين دون تكلّف. من المستحيل أن تتوقع أنها نفسها صاحبة الطاقة المتدفقة بالعفوية والبساطة، والتي صقلت التحديات لتصبح إنجازاتها باهرة، من مصانع الحديد إلى التعاقدات مع شركات عالمية مثل تسلا وناسا، لتظل مثالًا حيًا للقوة التي تتألق في بساطة الروح ودفء القلب.