12. تعاونيات الإنتاج الذاتي – بناء اقتصاد موازٍ خارج سيطرة الميليشيات



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 26

تمثل تعاونيات الإنتاج النسوي في واقع الحرب السودانية فعلاً ثورياً لانتزاع أدوات البقاء من أنياب البرجوازية الميليشياوية وتجار الدم، محطمةً بذلك طوق التبعية الذي يفرضه اقتصاد الحرب والمنظمات الإغاثية النيوليبرالية. إنها ليست مبادرات إنسانية لترميم البؤس، بل استيلاء مادي مباشر على وسائل الإنتاج من قبل القوى المنتجة الحقيقية - النساء - في معاقل الجوع والحصار، لتحويل الجهد البشري من وقود مجاني لآلة الدمار إلى طاقة بناء اشتراكية. هذا التحول من العمل المنزلي غير المأجور إلى إنتاج جماعي تعاوني يمثل ضربة قاصمة لمنطق التراكم الرأسمالي المسلح، حيث يُسترد فائض القيمة المنهوب ويُعاد توجيهه لسد حاجات الطبقة المسحوقة، واضعاً حداً نهائياً لتحويل العمل النسوي إلى ذخيرة في خزائن أمراء الحرب.

تثبت التجارب الميدانية في مخيمات النزوح بدارفور وأحياء الخرطوم والجزيرة أن التعاونيات ليست مشاريع تقنية فحسب، بل مختبرات حقيقية للاشتراكية التطبيقية. ففي مخيم المناصير، تتناوب النساء على ري الحقول وزراعة الخضروات، بينما تجمع الأخريات الزيوت المستعملة لصناعة الصابون، في مشهد يومي يدمج العمل البدني بالوعي السياسي؛ كل خطوة في الحقل، وكل دحرجة قطعة صابون تحمل رسالة واضحة: لا للسيطرة الاقتصادية، لا للتجويع مقابل الولاء. في حي جبرة، تتعاون النساء لإنتاج الفحم النباتي وتوزيعه بأسعار رمزية، متحديات احتكار الميليشيات وحاصرات مسارها نحو الاحتكار الكامل للسلع الأساسية. لم تكن زراعة الأرض أو صناعة الصابون مجرد أنشطة تقنية، بل فعلاً سياسياً بامتياز يقطع الطريق أمام سياسة التجويع مقابل الولاء. تعتمد الميليشيات في بقائها على تحويل الغذاء والدواء إلى أدوات ضغط سياسي، وعبر خلق قنوات إنتاج وتوزيع بديلة، تنجح النساء في تجريد هذه القوى من أحد أهم أسلحتها. هذا الاقتصاد الموازي يهدم الهياكل الهرمية للملكية الفردية ويستبدلها بالملكية الجماعية، ما يحقق ما نادت به ألكسندرا كولونتاي: تحطيم قيود الأسرة البطريركية وتحويل المرأة من مستهلكة تابعة إلى منتجة مديرة في اقتصاد المقاومة.

يكمن التناقض الجدلي في أن الحرب التي أرادت تفتيت المجتمع وتحويله إلى وقود للمعارك خلقت دون قصد شروط الإمكان لبناء كوميونات إنتاجية مصغرة. هذه الخلايا تعمل وفق مبدأ ماركس الخالد: من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته، وليس وفق قانون العرض والطلب المشوه في زمن الحرب. عندما توزع محاصيل تعاونية زالنجي بأسعار رمزية أو مجانية للأسر الأكثر فقراً، تهاجم جوهر الرأسمالية المتوحشة التي تتغذى على المصائب. ممارسة الديمقراطية المباشرة في إدارة الموارد تبني الوعي الطبقي؛ المرأة التي تدير حسابات التعاونية وتواجه صلف الميليشيات في نقاط التفتيش لحماية محصولها تتحول إلى فاعل تاريخي لا ضحية، كما وصف غرامشي: التحول من الهيمنة إلى الاستقلال الثوري.

مواجهة التعاونيات مع اقتصاد النهب ليست سلمية بالضرورة، بل حرب مواقع اقتصادية؛ الميليشيات التي تفرض ضرائب الحرب ترى في الاستقلال الغذائي والدوائي النسوي تهديداً لاحتكار السلطة. ربط هذه التعاونيات بلجان المقاومة المحلية وشبكات التضامن في الشتات ليس دعماً لوجستياً فقط، بل تأمين سياسي لمشروع الدولة البديلة التي تنمو من أسفل. هذه النواة الاقتصادية هي الرد المادي على وعود السلام الزائفة، فالسلام الحقيقي يبدأ حين يمتلك الجياع القدرة على الإنتاج دون خوف. وكما يرى إرنست ماندل، فإن الأزمات الكبرى تكشف للجماهير أن الإدارة الذاتية ليست خيالاً يوتوبياً، بل السبيل للبقاء والتحرر.

تظل تعاونيات الإنتاج النسوي منارة ترشد إلى شكل الاقتصاد القادم؛ اقتصاد لا يقدس الربح ولا يبني القصور على جثث الفقراء، بل يعيد الاعتبار للإنسان والعمل الجماعي. البذور التي تُزرع في الحقول اليوم ستشكل الغطاء الأخضر لجمهورية العمل القادمة، حيث لا سيد ولا مسود، وتنتهي حقبة استغلال جسد المرأة وعملها لصالح آلة الدمار. هذه التعاونيات هي الرسالة الأقوى لأمراء الحرب: لقد استعدنا وسائل عيشنا، ولن نعود لبيوت الطاعة الاقتصادية مرة أخرى.

وكما كتبت روزا لوكسمبورغ: الحرية الاقتصادية هي أساس كل الحريات.

النضال مستمر،،