13: ما بعد الدولة الميليشياوية – نحو دستور شعبي يُكتب من المخيمات والمصانع



عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 12 / 28

يبرز سؤال "ما بعد الدولة الميليشياوية" في السودان بوصفه ضرورة مادية تفرضها بنية الصراع نفسها، لا كخيار نظري مؤجل أو تمرين دستوري معزول. فالدولة القائمة لم تتشكل تاريخياً إلا كأداة قسرية بيد الطبقة المسيطرة، قبل أن تعريها الحرب وتحوّلها إلى جهاز نهب مباشر يتخفى خلف مفردات السيادة. لا تمثل الدولة الميليشياوية خللاً عرضياً في مسار الدولة الحديثة، بل تعبيراً مكثفاً عن تطور الرأسمالية الطفيلية في سياق شبه مستعمر، حيث يصبح العنف شكلاً من أشكال التراكم. عند هذه النقطة، تتوقف الدولة عن لعب دور الوسيط في الصراع الطبقي، وتتحول إلى غنيمة مفتوحة تتقاسمها شبكات السلاح والمال، بينما يُفرغ المجال العام من أي مضمون اجتماعي منظم. لذلك يغدو الحديث عن إصلاح هذه الدولة أو ترميمها ضرباً من الوهم، لأنها لم تعد منفصلة عن اقتصاد الحرب، بل صارت لغته السياسية الصريحة.

في هذا المشهد المتداعي، ينبثق الدستور الشعبي من شروط العيش القاسية في مخيمات النزوح التي تديرها النساء بشكل جماعي، ومن محاولات إعادة الحياة إلى المصانع المعطلة عبر تعاونيات إنتاجية نسوية، ومن التنظيم القاعدي في الأحياء المحاصرة حيث تشكلت لجان المقاومة النسائية. يتكون هذا الدستور من الممارسة قبل النص، ويتراكم عبر أشكال التنظيم الذاتي التي فرضتها الضرورة لا الرغبة. ففي المخيمات حيث تدير النساء توزيع الغذاء جماعياً، وفي التعاونيات النسوية حيث تُعاد صياغة علاقات الإنتاج بعيداً عن منطق الربح، وفي الأحياء التي تُنتخب فيها اللجان النسائية وتُحاسب بلا وسائط، يتجسد الدستور كواقع معاش. هنا يصبح الدستور خلاصة لما انتزعته النساء والجماهير فعلياً داخل الصراع.

إن الدولة الميليشياوية تسعى لتكريس هيمنتها عبر احتكار مزدوج للعنف والموارد، فتربط الحق في الحياة بالولاء، وتعيد تعريف المواطنة كامتياز مؤقت. في المقابل، تنتج النساء في المخيمات وأماكن العمل المنهوبة أشكالاً أولية من السيادة الشعبية، لا عبر الشعارات، بل عبر تنظيم تفاصيل الحياة اليومية. غير أن هذه الفضاءات النسوية لا تنفصل عن تناقضات المجتمع، إذ تتسلل إليها علاقات جندر غير متكافئة حتى داخل أشكال التنظيم الجديدة نفسها. لا ينتقص هذا الواقع من قيمة الدستور الشعبي، بل يكشف طابعه الصراعي، لأن المعركة النسوية لا تتوقف عند إسقاط سلطة الميليشيا، بل تمتد إلى تفكيك آليات إعادة إنتاج الهيمنة داخل البنى الجديدة نفسها.

هنا، تتحدد السياسة بوصفها إدارة جماعية للصراع الاجتماعي لا تمثيلاً شكلياً له. فعندما تنظم لجان المقاومة النسائية توزيع الغذاء، وتدير التعاونيات النسوية الإنتاج، وتتخذ القرارات بشكل جماعي، يجري تفكيك عملي لاحتكار الدولة لوظائفها الأساسية. غير أن هذا التفكيك يفتح بدوره صراعات داخلية حول من يقرر وكيف ولمصلحة من. هذه الجدلية هي ما يمنح التجربة النسوية معناها التاريخي، كما في كومونة باريس التي كانت ميدان صراع حي لا نموذجاً مثالياً، وكما في السوفييتات التي رآها لينين شكلاً جنينياً لسلطة شعبية محفوفة بالتناقضات.

إن انهيار الدولة المركزية، رغم فداحته الإنسانية، أزاح مؤقتاً الغطاء عن المجتمع، كاشفاً قدرة النساء خاصة على ابتكار أشكال تنظيم جديدة. ففي غياب الشرطة والمحاكم، طورت المجتمعات النسائية آلياتها الخاصة لحل النزاعات وحماية الوجود، وهي آليات لا تخلو بدورها من صراعات المصالح. تؤكد هذه التجربة أن الدولة ليست كياناً محايداً مفروضاً من الخارج، بل تجسيد لعلاقات قوة محددة، وأن تغييرها يفترض تغيير هذه العلاقات من جذورها لا الاكتفاء بإعادة ترتيب شكلها.

تتجلى ملامح هذا الدستور الجديد في ممارسات نسوية ملموسة: في الملكية الجماعية للنساء داخل التعاونيات، وفي المحاسبة المباشرة داخل المجالس النسائية، وفي توزيع الموارد وفق الحاجة لا السوق. غير أن هذه المكاسب تظل مهددة بارتداد الميليشيات التي تدرك أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الخصم العسكري، بل في البديل الشعبي النسوي الذي يفضح طبيعتها الطبقية والجندرية. لذلك تواجه النساء، إلى جانب العنف المسلح، محاولات الاحتواء وإعادة المركزية تحت شعارات توافقية تخفي جوهرها الطبقي والذكوري.

لقد كشفت الحرب أن الدساتير المفصولة عن الصراع الطبقي والنسوي تتحول إلى أوراق بلا مضمون. فالنصوص السابقة سقطت لأنها لم تمس البنية الاقتصادية والجندرية التي أنجبت العنف. من هنا، لا يمكن لدستور ما بعد الحرب أن يتجاوز مسألة تفكيك اقتصاد الحرب ومصادرة أدواته، وإخضاع العنف المنظم لرقابة شعبية نسوية مباشرة. أي انتقال لا ينزع السلطة الاقتصادية من أيدي الميليشيات ولا يعيد توزيعها لصالح النساء لا يعدو كونه إعادة إنتاج للأزمة بوجوه جديدة.

ينطلق الدستور الشعبي النسوي من حق العودة للمشردات، ومن حق النساء العاملات في إدارة المصانع، ومن حق النساء في الملكية الجماعية للأرض، بوصفها أسساً لعلاقات إنتاج وجندر جديدة لا مطالب إصلاحية معزولة. إن السيادة يُعاد تعريفها هنا كقدرة النساء والمجتمع على تنظيم إنتاجه وحياته دون وصاية ذكورية أو طبقية. تنتقل السيادة إلى الأسفل عندما تتحكم المنتجات في شروط بقائهن، ويتطلب ذلك قلب الهرم الدستوري بحيث تبدأ الحقوق من حقوق النساء في الغذاء والسكن والعمل الآمن، ويجري فصل الدولة عن رأس المال وعن البطريركية. عند هذا الحد يتضح الفرق بين دستور يحمي امتيازات الذكورة والطبقة ودستور يحمي حياة النساء والعاملات.

ختاماً، يطرح تراكم هذه التجارب النسوية مسألة ربط النوى الشعبية النسائية أفقياً، وهو ما يعيد سؤال القيادة الطبقية والنسوية إلى الواجهة. لا تُقاس القيادة النسوية بالخطاب، بل بالارتباط بالممارسة الإنتاجية النسوية وبآليات المحاسبة الصارمة داخل التنظيمات النسائية. تُستمد الشرعية هنا من قدرة النساء الفعلية على حماية الحياة وتنظيمها في ظروف الحرب، لا من الاعتراف الخارجي. وكما كتبت ألكسندرا كولونتاي عن ضرورة تحطيم قيود الأسرة البطريركية، فإن تحرر النساء الكادحات لا يكون إلا من صنع الكادحات أنفسهن.

النضال مستمر،،