|
|
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
|
خيارات وادوات |

عماد حسب الرسول الطيب
!--a>
2025 / 12 / 30
ينكشف اقتصاد الحرب في السودان بوصفه البنية المادية العميقة التي تحكم استمرار العنف كنمط تراكم رأسمالي مكتمل الأركان، ويصبح فهم الحرب مرتبطاً مباشرة بفهم العلاقات الاقتصادية التي أنتجتها. تتحول الحرب إلى جزء عضوي من الدورة الاقتصادية، فلا يُنظر إليها كاستثناء، إذ تعيش داخل منطق الميليشيات الاقتصادية، حيث يتحول السلاح إلى وسيلة إنتاج ويصبح العنف أداة مباشرة لانتزاع فائض القيمة عبر النهب والجبايات والاحتكار القسري للغذاء والوقود والدواء. تمثل الحرب في هذا السياق الشكل الأكثر توحشاً للرأسمالية، إذ تُختصر دورة الإنتاج والتوزيع في السلب المسلح وتُلغى وسائط القانون والعمل المأجور لصالح السطوة المباشرة، ما يربط العنف بالاقتصاد ويعكس التناقض البنيوي للسلطة.
تشكل العدالة الانتقالية التقليدية في هذا المشهد أداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي تحت غطاء السرديات الأخلاقية، إذ تتحول محاكمات الأفراد إلى آلية لتنقية النظام من شوائبه السطحية، بينما يبقى الهيكل الاقتصادي الذي أنتج العنف بمنأى عن المساءلة. ومن هنا، تتطلب العدالة الحقيقية في السودان، حيث تشكلت البرجوازية الميليشياوية عبر تراكم رأسمالي مسلح، البدء بتفكيك اقتصاد الحرب ونزع الملكية عن المستفيدين من استغلال جثث الفقراء والنساء. فالعدالة لا تتحقق بمحاكمة الأشخاص فقط، بل بمحاكمة العلاقات الاقتصادية التي حملوها، ما يربط بين المحاسبة القانونية والاقتصادية في وحدة جدلية متكاملة.
تتشكل طبقة حاكمة جديدة من رحم هذا الاقتصاد عبر التحكم المباشر في شروط البقاء، إذ تتحول الأسواق إلى نقاط تفتيش، ويغدو الغذاء أداة إخضاع، ويتحول العمل إلى خدمة قسرية لآلة الحرب، ويُستباح الجسد بوصفه مورداً. ويتكئ هذا الاقتصاد على شبكة معقدة من العلاقات الطبقية تضم تجار الأزمات ووسطاء المنظمات الدولية والبرجوازية التجارية المتورطة في غسيل أموال النهب، ما يفرض ضرورة أن تشمل العدالة كل من جعل حمل السلاح تجارة مربحة، واحتكر الدواء، واستفاد من تهجير الجماهير لفرض أشكال جديدة من العبودية في المخيمات ومزارع العمل القسري، مؤكداً أن المحاسبة الاقتصادية هي شرط مسبق لأي محاكمة سياسية.
يفرض هذا الواقع فهماً مادياً لمسألة السلام، إذ إن السلام الذي يتجاهل علاقات الإنتاج السائدة يظل هدنة لإعادة ترتيب عمليات النهب. ويصبح تفكيك اقتصاد الحرب شرطاً أولياً لأي انتقال حقيقي، ويتقدم على أي مفاوضات نخبويّة، لأن العدالة الانتقالية الطبقية تبدأ بالأسئلة المادية حول الملكية وكيفية تحويل الدولة إلى أداة في خدمة طبقة مسلحة، وتؤدي هذه الأسئلة إلى حتمية نزع الملكية وتحطيم سلطة الطبقة المسلحة، كخطوة حاسمة لإنهاء التناقض البنيوي وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي.
يبدأ تفكيك اقتصاد الحرب باستعادة المنتجين زمام الاقتصاد في الحقول والمصانع والأسواق الشعبية وشبكات التوزيع المحلية، بعيداً عن القرارات الفوقية، إذ تمثل المبادرات القاعدية من تعاونيات ولجان سوق ونظم تبادل غير نقدي نواة اقتصاد بديل يقف على النقيض من منطق النهب. ومن ثم، يؤدي توجيه الإنتاج جماعياً لتلبية الحاجات إلى كسر الحلقة التي تربط الثروة بالسلاح، فتتحول القيمة من غنيمة تُنتزع بالقوة إلى نتاج اجتماعي يُوزع بقرار جماعي، ما يعكس العلاقة الجدلية بين القوة الاقتصادية والسلطة ويجعلها محوراً للتغيير الثوري.
تتجلى مفارقة العدالة التقليدية في تعاملها مع العنف كاستثناء أخلاقي رغم كونه استمراراً منطقياً للرأسمالية الطفيلية المتوحشة، كما حلل فانون، إذ يولد العنف اقتصاداً يصبح أساساً للتراكم، وهو ما يظهر في تحوّل الحرب في السودان إلى صناعة، والموت إلى سلعة، والمعاناة إلى رأسمال. وتظل أي محاولة للمحاسبة لا تطال هذا الاقتصاد محاولة سطحية تعالج الأعراض وتترك المرض الطبقي قائماً، ما يربط بين العدالة الاقتصادية والسياسية في وحدة جدلية متواصلة.
يستمر الصراع في ساحة الاقتصاد إذ تدرك الميليشيات أن فقدان احتكار الموارد يهدد وجودها، فتقمع التنظيم الاقتصادي الشعبي بالقمع وفرض الإتاوات والاختراق، ما يكشف الطبيعة الطبقية للمواجهة بين قوى تعيش على النهب وقوى تسعى لإعادة ربط الثروة بالعمل. وتثبت التجارب الدولية أن محاكمة الأفراد دون محاكمة النظام الاقتصادي تعيد إنتاج الاستغلال، إذ تفقد العدالة معناها إذا ظلت الأراضي المغتصبة في أيدي الطبقة المعتدية نفسها، وظلت النساء المنهوبات محاصرات بالفقر والتبعية، ما يربط بين التوزيع الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في مسار جدلي واحد.
تتطلب سيطرة المنتجين على الثروة آليات تنظيم تتجاوز العفوية، بما يشمل التحكم في التوزيع والتسعير وحماية سلاسل الإمداد من إعادة الاختطاف، ومن ثم تتقاطع مهمة الاقتصاد مع مهمة السياسة بوصفها إدارة جماعية للصراع حول الفائض، وكما أشار ماركس، فإن السيطرة على وسائل الإنتاج تمنح السيطرة بالضرورة على شروط الوجود الاجتماعي، لذا يستلزم مطلب محاكمة اقتصاد الحرب تأميم ثروات أمراء الحرب ومصادرتها، وتحويل مؤسساتهم إلى تعاونيات إنتاجية تحت إدارة المنتجين الحقيقيين، مع فضح دور البنوك والمنظمات التي سهّلت غسيل أموال النهب، ما يعيد صياغة السلطة الاقتصادية على أسس جماعية.
تعد مسألة الملكية مسألة مركزية في هذا السياق، فالملكية الفردية للموارد المنهوبة ليست حقاً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة للعنف، ومن ثم تمثل المصادرة الثورية لأدوات النهب وتحويلها إلى ملكية جماعية خطوة تحريرية تهدف إلى انتزاع الثروة من قبضة السلاح وتجاوز مجرد الإجراء العقابي. ويكتسب هذا المسار بعداً نسوياً حاسماً، إذ تتجاوز عدالة النساء ملاحقة المغتصبين إلى محاكمة النظام الاقتصادي الذي حوّل أجسادهن إلى ساحات حرب وأدوات تراكم، مع ضمان حقهن في إدارة الثروة الاجتماعية المنهوبة، ما يربط بين العدالة الطبقية والنسوية في سياق موحد.
يفتح تفكيك اقتصاد الحرب أفقاً جديداً للعدالة، إذ تتجسد في إعادة توزيع ما سُرق وضمان عدم تحويل العمل مرة أخرى إلى وقود لحروب جديدة، ومن ثم تمثل العدالة الاقتصادية شرطاً للعدالة الاجتماعية، ومن دونها تعيد الرأسمالية الميليشياوية إنتاج نفسها بأسماء مختلفة. وينتهي هذا المسار بقطيعة تاريخية مع الدولة القديمة وبناء دولة تحمي الملكية الجماعية وتخضع العنف لرقابة المنتجين، فتبدأ الاشتراكية حين يتوقف الاقتصاد عن خدمة الربح ويبدأ في خدمة البشر، ما يوضح وحدة الاقتصاد والسياسة في التغيير الثوري.
تعد العدالة الانتقالية الطبقية استمراراً للصراع الثوري من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة وقلب العلاقات الاجتماعية التي أنجبت العنف، ومن ثم يمثل تفكيك اقتصاد الحرب معركة طبقية مفتوحة يتحدد فيها شكل المستقبل: إما استمرار اقتصاد يعيش على الموت، أو بناء اقتصاد يضع الحياة في المركز. وفي هذا الصراع، تستعيد الجماهير دورها كقوة تاريخية قادرة على انتزاع ثروتها وقرارها.
وكما قال كارل ماركس: "رأس المال عمل ميت لا يحيا إلا بمصّ العمل الحي".
النضال مستمر،،
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
|
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|