!يعني أفلح القوم عندما ولوا أمرهم ذكرا



هويدا طه
2007 / 3 / 15

شهر مارس يبدو كل عام وكأنه- رخصة- لحديث (المناسبات) عن شؤون المرأة.. باعتباره شهر يأتي فيه اليوم العالمي للمرأة ويأتي فيه في بلادنا ما يسمى عيد الأم.. وهذا وحده شيء مستفز يدعو إلى مقاومته.. على الأقل بتجاهل الحديث عن شؤون المرأة في هذا الشهر بالذات، ما يسمى (قضايا المرأة) هو أمر لا يخص المرأة وحدها.. فتلك القضايا هي قضايا المجتمع ككل، وما يسمى (حديث المناسبات) هو أمر ممتد أصلا على طول أيامنا.. فالمرأة العربية عموما والمصرية خاصة هي في الدرك الأسفل لمجتمع هو بدوره.. في الدرك الأسفل للعالم! لكن لقاء ً قيما ً عقده برنامج العاشرة مساء مع ثلاثة من القضاة (ذكران وأنثى واحدة!).. دار فيه النقاش حول (معضلة) تولي المرأة منصب القاضي في مصر.. كان سببا كافيا في التراجع عن مقاومة التأنيث الإعلامي لشهر مارس! اللقاء كان ثريا بالفعل أدارته منى الشاذلي بفهم لنوعية من تحاورهم.. لذلك تركتهم يتحدثون بما لديهم ولم تقاطع إلا قليلا وحسنا فعلت.. والضيوف هم من العينة الأرفع مستوى في أي مجتمع وبالتالي لم يقاطعوا بعضهم ولم يتصارخوا ولم يسفوا في الحديث كأغلب من نرى ونتابع من ضيوف الفضائيات.. أما الموضوع المطروح والحجج التي ساقها صاحب كل رأي فكان حول (يجوز أم لا يجوز) أن تكون المرأة قاضيا.. يجوز أو لا يجوز على المستوى (الشرعي) من جهة وعلى المستوى القانوني والتنظيمي والاجتماعي من جهة أخرى.. القضاة هم المستشار أحمد مكي والمستشار مجدي الجارحي والمستشارة نهى الزيني.. والأخيرة هي تلك المرأة الرائعة التي وقفت ضد التزوير البين في انتخابات نيابية كانت تشرف عليها وعرفها الإعلام منذ ذلك اليوم، لكن ماذا كانت النقطة الأكثر إثارة في النقاش؟ الحق أنك تذهل وتصاب بالدهشة وربما اليأس من هذا (التديين) لكل قضايانا.. هذا (الرجوع) في كل صغيرة وكبيرة للفقهاء والأئمة الذين رحلوا عن عالمنا منذ ألف عام.. هذه (الاستقالة أو الإقالة) للعقل المتمكنة منا.. هذا التعلق بأهداب (الفقه والشرع) في كل أمورنا.. بدءً بكيفية دخول الحمام وحتى مسائل الحكم والقضاء والولاية مرورا بكل أوجه الحياة التي نعيشها.. هذا شيء غير معقول.. كيف نشق الطريق إلى المستقبل وعلى أكتافنا ابن حنبل والشافعي والمالكي وأبو حنيفة يعطلوننا هذه العطلة! المستشارة نهى الزيني تقاوم معارضة (ذكور القضاء المصري) لتولي المرأة المنصب.. لكنها ساقت حجة دينية عندما قالت:"عمر بن الخطاب ولى أم الشفاء قضاء الحسبة وأحد الخلفاء العباسيين ولى كهرمانة ولاية القضاء"، وهذا أمر غريب.. طيب وإذا لم يكن عمر بن الخطاب أو ذلك الخليفة ولى أم الشفاء أو كهرمانة ذلك المنصب ماذا كانت المرأة المصرية ستفعل الآن؟! أي مأزق هذا؟!.. المستشار أحمد مكي قال إن الشرع لا يمنع مطلقا تولي المرأة القضاء.. عظيم.. وإنما المانع هو مانع اجتماعي وتنظيمي لأنه من الصعب على المرأة (الالتزام بقواعد القضاء) أما ما هي تلك القواعد فقد قال سيادة المستشار:" إذا كان الأمر يقتصر على مجرد تعيين المرأة قاضية في المحكمة الدستورية وهي لها عمل محدد لا بأس.. ولكن القضاء العادي واليومي.. أنا كقاضي لابد ألا أكون قاضيا في منطقة نشأتي ولابد أن أتنقل من مدينة إلى أخرى ولا أبقى في مكان واحد أكثر من خمس سنين ولهذا أعتمد على زوجتي في مراعاة البيت والأسرة والأولاد فكيف ستتعامل القاضية مع هذا الأمر؟ أنا كقاضي لازم ألبس البدلة والكرافتة حتى لو رايح أبص من البلكونة.. طيب هي حتلبس إيه؟"! أما الرأي المعارض تماما وبهذا الإصرار المطلق لتولي المرأة القضاء فكان يمثله المستشار مجدي الجارحي.. وهو والله يختصر مأزق مصر كله وليس فقط مسألة تأنيث القضاء.. فالرجل لا يعترف مطلقا بأي عنصر آخر يمكن أن يحكم الحياة سوى (مقولات) الشرع.. الرجل يهمل تماما شيئا اسمه الزمن.. التطور.. خبرات البشرية المتراكمة.. حقوق الإنسان.. المفاهيم الحديثة عن الدولة والوطن والمواطن.. أبدا.. لا شيء إلا الأئمة الأربعة وما قالوا وما فعلوا.. يقول:" لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.. هذا حديث عليه إجماع".. إجماع من؟! فمن أجمعوا على هذا الكلام لم يحضروا الاتفاقيات الدولية حول عدم التمييز.. لم تكن المرأة في زمانهم تدرس هندسة الإلكترونيات واللغات والقانون والهندسة الوراثية والطب والزراعة.. لم تكن المرأة في زمانهم تقود حزبا أو تشارك في برلمان.. هؤلاء الأئمة لم يعرفوا ما تعرفه حتى طالبة المرحلة الإعدادية الآن!... ومع ذلك يعود سيادة المستشار ويدلل على (دقته) بذكر أرقام الصفحات من كتبه الصفراء المرصوصة في مخازن مخطوطات الآثار القديمة! ترد عليه المستشارة نهى الزيني بأن القضاء الآن (وظيفة وليس ولاية) ويرد المستشار مكي بأن المجتمع المصري لا (يبلع) فكرة أن تكون المرأة قاضية وأن مصر لم يعين فيها قاضية طوال سبعة آلاف سنة.. رغم أن العدالة في التراث الفرعوني تمثلها (ماعت) وهي امرأة على رأسها ريشة لتمييزها، ويقول الجارحي إن شرط تولي القضاء أن يكون القاضي (ذكرا ومسلما وعاقلا) وعندما قيل له إن هناك فضاة مسيحيين في مجلس الدولة.. وبالتالي طالما تغاضيتم عن شرط الدين فلماذا تصرون على شرط النوع؟ قال (دي مشكلة الدولة مش مشكلتي.. أنا ملتزم بالشرع) أي أن هذه الدولة إذا أوقعها حظها العاثر في يد الجارحي وأمثاله فلن ترى فيها بعد اليوم إلا (ذكورا مسلمين)! أحد المشاهدين أرسل رسالة قال فيها:"من علامات الساعة أن تكون المرأة قاضية" وآخر قال:"لو أصبحت المرأة قاضية سأترك المحاماة"! المستشار مكي برأيه الوسطي وتشكيكه في أن المرأة يمكنها الالتزام بقواعد القضاء طرح رأيا آخر مهما.. قال إن للسياسة فعلها وإن الحكومة أو السلطة التنفيذية تعطي لنفسها أكثر من حقها.. في مسائل التحكم في القوانين وتعديلاتها بدون أخذ رأي الناس.. وأكد على ذلك المستشار الجميل هشام بسطاويسي في اتصال هاتفي، نعود إذن إلى المربع الأول.. كل مرة.. النظام السياسي هو العلة.. مصر الآن رهينة لنظام مفكك ليس بحوزته سوى الأمن الشرس.. يقود به بلدا لم يجد أهله سبيلا للخلاص من حاضر فاشل إلا بالسقوط في مستنقع الماضي البعيد.. القابع في مخازن مخطوطات الآثار! كلاهما مرتبط بالآخر.. نظام فاشل في تحقيق أماني الناس.. ورد فعل ماضوي يزداد تغلغلا كلما زادت شراسة النظام البوليسي.. وكلا الطرفين اللذين يغرقان مصر يقودهما ذكور!.. ثم يأتي من يقول إن القوم لن يفلحوا إذا ولوا امرأة أمرهم.. قال يعني همه دلوقتي.. فالحين!