المرأة تحت سلطة الدكتاتور في رواية غبار الطلع



سحر حويجة
2007 / 6 / 4

رواية غبار الطلع ، عالم مجرد عن الزمان والمكان المحددين، لكنه عالم واقعي، يشعر القارئ أنه عايش هذا الواقع، ودفع ضريبته بشكل أو بآخر، عالم موجود في كل مكان وزمان حيث تسيطر الديكتاتورية فيه ، ميزة الرواية أن التجريد فيها كان عملاً فكرياً اختزل الكاتب فيه الواقع بقوانين ارتبطت فيه النتيجة بالسبب. كل شيء يبدو قسرياً يبني الكاتب رؤيته داعماً إياها بالصور والاستعارات والتشبيه مأخوذة من الطبيعة القاسية، تعبيراً عن قسوة الحياة التي نحياها ، كأنه يحاول نحتها، استعارات تبدو عصية على القارئ في كثير من الأحيان.
نجد أن الديكتاتورية في المحصلة ليست سوى "مملكة خاصة شرع فيها أن يكون الديكتاتور نصف إله أو إلهاً كاملاً في قطيع آلهة" ، الطاعة والخضوع والولاء، هي الأسس التي تقوم عليها الديكتاتورية ، يتم ذلك في سياق شاق وصعب وقاس ، يدفع فاتورته الناس جميعاً ورد في الرواية : "يحاولن بداية إلهاءك في قوت يومك وخبز عيالك، فلا يسعك التفكير بغيرهما وحين تعجز عن متطلباتهما ، يفسحون لك فرص الانحراف والفساد، وإن أدرت رأسك يسعون لتعريضك للانتهاك لتنسى حصانتك الطبيعية وحرمة حياتك ومالك وعرضك". نجد إنه لا أهمية لموقع الدكتاتور في السلطة بل المهم أنه ممثل لها يحمل طموحها في أن تدوم للأبد ، الديكتاتورية سلسلة مترابطة تتجه للأعلى، قادتها يؤدون دوراً واحداً، يقوم على سحق، و تدمير كل ما يهدد سلطتها دون رحمة، ويصبح البشر مخبراً لزراعة الخوف، على الجميع الخضوع والطاعة ، إحساس الديكتاتور بامتلاك أرواح الناس وأجسادهم، ومصيرهم يتلخص بموقف جاء على لسان الدكتاتور : " أنا مصدر وجودكم ومبرره مهما حاولتم أن تكونوا غير ما أريده ستخفقون في محاولاتكم" . حيث إن كل معارض لسلطة الديكتاتور ، هم أعداء شخصيين له: "لا يرى بهم بشراً لهم مواقف قد يختلف معهم، بل أشخاصاً وقفوا في وجهه أو في وجه من يمثله، يتجه مباشرة إلى أرواحهم وعناصر التمرد في إرادتهم". فعل الثأر الشخصي يبرز واضحاً، ضد كل معارض ، لا يهم أن يكون معارضاً سياسياً بل المهم إرادة المعارضة والتحدي لسلطة الدكتاتور ، ليس المهم الرأي الذي يتبناه من يعارض ، المهم أنه لا يخافهم، حتى أنه ليس المهم أن يكون الشخص هو المطلوب والمقصود ، بل يكفي أنه يستطيع بثأره وخلاصه منه تحقيق أهدافه بزرع الخوف والطاعة، لذلك برزت المعارضة في الرواية بصورة المعارضة للدكتاتور ضد مشروع خاص مضراً بمصالح الناس . إذلال الإنسان ، وفقدان الكرامة الإنسانية، نتيجة الانتهاكات الكبيرة التي يقوم الدكتاتور بها ضد المجتمع حتى لا يبقى أمام الإنسان سوى خيارات محدودة: إما الاستسلام وإما العزلة والانكفاء على النفس وإما الغربة. ينجح الديكتاتور في تفريق الناس خاصة المعارضة عن بعضهم البعض وخلق العداوة بينهم، أحد أهم وسائل حماية سلطته وتثبيتها . يزرعون العداوة و الشك حتى يأخذ الجميع بمراقبة بعضهم البعض ، يكرهون بعضهم، ثم يكرهون أنفسهم ويعادونها. مرحلة التراجع والانهيار يلخصها المؤلف من خلال موقف فاتك الدكتاتور الذي يصفه الكاتب بالدكتاتور الصغير، عندما يجمع المعارضة في السجن ويخاطبهم: "لا غبار على سلوككم أريد أن أطمئن على بواطنكم أتفحص عن قرب ضمائركم" يتابع "منذ اللحظة ستحدث طفرة جديدة في تطور جنسكم لا مثيل له يؤمن بالطاعة أولاً وبالطاعة ثانياً وبالطاعة أخيراً".
في هذا الزمن زمن الانحدار والتراجع نجد أن من يحاول أن يحافظ على نفسه، يكون أمام خياراً صعباً هو العزلة أحد وسائل حماية الذات، أو عزلة يتم فرضها بسبب الخوف، و ابتعاد الأهل والأصدقاء، أو نتاج إهمال الآخرين له.
صراع الروح والجسد، وعذابهما، صراع الأجيال حيث يأتي جيل جديد خاضع وذليل بدون أدوات تعذيب، الحياة والموت ، تبرز في الرواية بأشكال مختلفة : "كل هروب من الحياة هو لجوء للموت حتى وإن لم يقصد منها الموت"، الغربة أحد أشكال الهروب من الواقع ، تصل حدود الموت.
اليأس والإحباط ، والاستسلام لواقع قاسي يعج بالخوف والفقر و كل أنواع الفساد والدعارة والتفكك العائلي والمصالح الخاصة، والفشل يصل الإنسان إلى حالة العجز والشلل عن الفعل ويستسلم. هزيمة وإن بدت نسبية. نجد أن الناس تغيرت لكن يتم إلقاء تبعات ذلك على أن الزمن قد تغير: " الزمن لا ينقلب على نفسه، نحن نراه هكذا لأننا انقلبنا على أنفسنا أو نرى انقلاب الناس على أنفسهم" ،
المرأة تحت حكم الدكتاتورية :يعرض لها المؤلف في نماذج متعددة، حيث نجد إن الظروف التي تحكم المجتمع من الفقر والخوف والفساد وشهوة السلطة والمال والجنس عند الدكتاتور، أسباب تساهم في تخريب المجتمع ، وتدفع ضريبته المرأة قاسياً كان واضحاً في الرواية نموذج نساء الليل المتسولات على قارعة الطرق، نتيجة الفقر والتفكك العائلي. وانتشار الدعارة أحد وسائل العيش.
أما المرأة التي تعارض الدكتاتورية، لها دور مميز ولا فت في الرواية، حيث نجد صورة مختلفة ، تعارض الآراء السائدة حول المرأة، بدت الشخصيات النسائية بمجملها مستقلة عن الرجل في قراراتها وبدت أقوى من الرجل في مواجهة شروط الواقع مع إن المرأة تدفع ضريبة مضاعفة ، ضريبة حرمان الجسد حيث كانت واضحة عند أغلب الشخصيات ، استقلالية المرأة في الرواية تبدو في خلاف مع الواقع، حيث إن الصورة الشائعة هي المرأة التابعة للرجل تدور في فلكه تقوى بقوته تضعف وتنهار أمام انهياره، خاصة في ظروف الانكماش والانحطاط لا تخرج المرأة المثقفة عن هذا الإطار، أما المرأة المستقلة على مستوى الخيار والقرار في الواقع هن أقلية. رؤية المؤلف في جانب منها رؤية فكرية، تعبير عن صاحب المصلحة الأعمق في المعارضة ورفض الواقع ، بل تعبيراً عما يجب أن يكون حيث أن المرأة الطرف الأكثر اضطهاداً وتضرراً من سلطة الديكتاتور والمجتمع الذكوري، في اتجاه قيم إنسانية لعلاقة الرجل والمرأة، إضافة إلى إن وعي الذات والاستقلالية شرط الدفاع عن الموقف .
عرضت الرواية لنماذج متعددة : نموذج المرأة المنهارة التي كفرت ورفضت بكل ما آمنت به سابقاً، تعاملت مع الأمن مضطرة، تم عرض الشخصية من خلال صفات جسدية ونفسية وأخلاقية خاصة ، تثير الكراهية والاشمئزاز من قبل القارئ، وقحة شاذة منبوذة معزولة ، لكنها تدافع عن صواب موقفها و تصب جام غضبها على رفاق الأمس، تقول" لا ألوم من سرق أحلى سنوات عمري وحرمني منها فقد دافع عن حقه في إزاحة من يهدده في وجوده وتطلعاته هذا حقه المشروع ألوم من أدخلوا تلك العتمة في عيوني على أمل أن شمسهم المظفرة سوف تبزغ من عتم ليلي" ، من ناحية أخرى خاصة جانب الأنثى فيها تبدو ضحية تعيش صراعات عميقة تشعر بالغربة والوحدة، برز موقفها العدائي ضد نزعة الرجل في الهيمنة والسيطرة القائم على مفهوم السيد والعبد المملوك لإشباع حاجات سيده ونزواته وتنتهي بالموت من قبل زعيم المعارضة الذي اتخذ فعله صورة الثأر الشخصي حتى هو ذاته لم يجد ما يبرر فعله في زمن التراجع والانسحاب .
على خلاف هذه الشخصية تم عرض صور مختلفة لنموذج المرأة التي صمدت، اتسمت مواقفهن بالتحدي ومواجهة شروط حصارهم وتدميرهن من قبل المجتمع والدكتاتور، لعل الصورة الأنقى هي حنان امرأة قضت عدة سنوات في السجن وبعد إن خرجت بقيت مؤمنة بقناعتها لم تغير جلدها تتمتع بالجرأة أما روحها كانت تتحدى عوامل التخريب من خلال العزلة : "سارت وحيدة إلا من تمردها ورفضها للانصياع لما لا يرتضيه الإنسان". لم تضعف أمام التحديات الكثيرة دافعت عن أفكارها وقيمها وخياراتها الشخصية والعامة، في مواجهة المجتمع ورفاقها السابقين وبقيت في حالة المواجهة حتى اللحظة الأخيرة وكانت رمزاً للتحدي والصمود. في الصورة الأخيرة من الرواية كانت الأكثر شجاعة، في مواجهة الدكتاتور .
رحاب نموذج المرأة التي عاشت على حلم عودة حبيبها من المنفى وهو الزعيم أدهم، لم تخنه يوماً، ولم تفكر بآخر، بل عاشت على الأمل ولكن مع عودته بصورة الإنسان الآخر المهزوم، بدافع اليأس والإحباط ، وسعيه لهروب آخر، أما هي لم تكن مهزومة مثله رغم حرمانها وعذابها ونكرانها ذاتها، بل رفضت أيهم الجديد قالت: "لقد أصبحنا عالمين مختلفين محال إعادة اكتشاف المشترك والمتحد بيننا فكيف التحامهما". نرى رحاب هي الأخرى متماسكة مستقلة رفضت الهروب والغربة، في دفاعها عن روابطها وقناعتها. وهنا برز الحب والانتظار مرتبط بالموقف، بينما في العالم الواقعي نجد إن الانتظار ، ونكران الذات وإن كانت مسألة شبه عامة تجمع النساء ، لكن في قد تعود في معظمها لأسباب اجتماعية، بسبب التقاليد التي تفرض على المرأة ، و البنية الأخلاقية للمرأة في مجتمعاتنا، أحد الأسلحة التي تحارب بها، إضافة للروابط العاطفية، مواقف المرأة تتصف عادة بالسلبية والعاطفية ، لكن نساء الرواية متميزات تتصف مواقفهن بالعقلانية.
مي شهيدة الحب التي عارض أهلها زواجها من أحبت وكانت نهايتها الموت ساهم موتها إلى حد كبير في قبول إبراهيم على نفسه أن يكون فدية عن صديقه أدهم. عاد إبراهيم من أجلها وكان الموت مصيرهما، كأنه استعجل الموت بسبب موتها.
وأيضاً صفاء ورقية نساء يبحثن عن مستقبل أولادهن بدون أن يتلوثن، يدافعن عن الارتباط بالمكان ، وهي أحد شروط الاستمرار والدفاع عن الموقف عند المؤلف . نقرأ جدالاً بين رقية وزوجها حيث إنها رفضت السفر خارج الوطن وتحملت شظف العيش .
رماح نموذجاً آخر اختارت الغربة والهروب، حتى آخر لحظة من حياتها كانت أكثر إيماناً بقناعاتها، قياساً إلى الزعيم أدهم، حيث كانت على علاقة معه في الغربة، انتهت حياتها بالموت، وكأن الكاتب يقصد أن صاحب الموقف لا حياة له حيث تنقطع أواصره .
أما جنان وأخت حنان ، صورة أخرى لنساء برزن في الرواية، يمثلن جيلاً جديداً تربى تحت تأثير المعارضة ، برز رفضهم الخضوع، في مواجهة محاولة جرهم لمواقع الدعارة، والابتزاز الجنسي ، اضطررن لاستخدام العنف في الدفاع عن أنفسهن. وكانت جنان نموذج لجيل جديد يخالف سابقه، إيمانها في أن لا يكون الإنسان سوى ذاته.

عذاب الروح والجسد وصراعهما، نكران الذات، نموذج المرأة المناضلة نجدها في جميع نساء الرواية، كان ذلك واضحاً في الدفاع عن النفس وعن المبدأ، وإن كانت العزلة الاختيارية لحماية الذات من التخريب والضياع، أو العزلة القسرية التي يفرضها المجتمع خاصة الأصدقاء على هؤلاء النساء ، إضافة إلى الرقابة الصارمة على حياتهن، في مجتمع ذكوري لا يرحم، أسباب جوهرية لعبت دوراً مهماً في تحديد مصير هن، نجد المرأة في الرواية كما في الواقع أكثر محافظة والتزاماً ، وتضحية في دفاعها عن قيم الحب والشراكة، لكن في الواقع تختلف الأسباب بين فئة وأخرى، بين قيم المحافظة التقليدية ، وبين الدفاع عن قيم المستقبل، في المساواة والشراكة، على أساس مواجهة قيم المجتمع الذكوري وتفوقه، الذي يتم على حساب اضطهاد المرأة، مع إشارة إلى أن الشخصيات النسائية في الرواية جميعهن متميزات، بينما الرجل بسبب عدم التعرض لسمعته كما المرأة يتمتع بخيارات أكبر، تعبر عن جانب أناني في شخصية الرجل نتاج قيم المجتمع الذكوري ، يعيش الرجل غربة الروح وضياعها ، وفقدان الحب، عبر التنقل من جسد امرأة إلى آخر.

سحر حويجة


للمترجم والروائي عماد شيحة أقدم سجين سياسي في سوريا قضى ما يقارب الثلاث عقود في المعتقل وبعد خروجه من السجن أصدر مجموعة من الكتب المترجمة وروايتين الأخيرة كانت غبار الطلع. إصدار المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع: الدار البيضاء ..وبيروت
: الكلام بين القوسين مقتبس من الرواية.