نحن أبناء العالم الحزين والبؤس المقيم...لماذا؟ (الحلقة الأولى )

فلورنس غزلان
fozmon@yahoo.fr

2008 / 11 / 9


لن نقهر البحر ولن نقهر الجلاد، لن نقهر العذاب الطويل ولا سوء الطالع، لأنه من صنع أيدينا غالب الأحيان، لأنه نتاج تخلفنا وإغراقنا في الموحل من الفكر وبعدنا مسافات ساحقة عن عالم الحضارة والتطور واحترام الإنسان، لا نحترم أنفسنا فكيف سيحترمنا الآخر؟لا نتعامل مع أولادنا إلا بالعصا ونورثهم الإمساك بالعصا قبل أسمائهم، لانحترم زوجاتنا وننسى أنهن أمهات كأمهاتنا، ونسومهن سوء العذاب ونحيلهن لعصور الرق والاستعباد، كل اللوم وكل الشرف نسقطه على أفخاذ بناتنا، ونغمض العين أمام كرامتنا المهدورة وشرفنا المباح تحت قصف العدو وسياط الطغاة
نسقط ضعفنا على الأضعف فينا ونسقط هزيمتنا على تآمر الآخر علينا ، نهرب من المرآة لأنها تعرينا، نهرب من الواقع لأننا غير قادرين على تغييره أو إصلاحه فنتخذ من الماضي استمرارا للحاضر ودروسا للمستقبل ولهذا فموقعنا يأتي في آخر الجدول من شعوب الأرض، نغرق يوما بعد يوم في عتمة الفكر وضحالة الرؤيا، تزداد الهوة بيننا وبين الكون من حولنا وتتسع الفجوة ، مع أنه من المحتوم والمفروض حسب سلوكيات ومسيرة التطور الإنساني أن تتقلص المسافة ويضيق الفارق، و من المفترض أن تكون خطواتنا أوسع وأسرع كي تضمحل المسافة فنلحق بالركب الحضاري ونساهم فيه، لكننا نسير من تراجع إلى آخر ونعود للسلف ونستجمع قوانا في مخاطبته لينقذنا من حاضر لانمت إليه بصلة، فنغرق ونُغرق أجيالنا القادمة بظلام مخيف ومريع.
كيف نخرج من هذا المستنقع وكيف نعود لصوابنا؟ ..أين يكمن الخطأ ؟...علينا أن نعيد النظر فيما نحن فيه وماوصلنا إليه .علينا أن نعيد اكتشاف أنفسنا، أن نعترف بالخطأ، أن نتداركه، أن نعترف بكل أمراضنا كي نضع اليد على أورامنا المتعددة الأماكن ، .وهذه الخطوات هي اللبنات الأولى على الطريق الواضح والصريح نحو الشفاء.
ما الذي دفعني للكتابة الآن وفي هذا الموضوع؟ وما الذي حدا بي لأفتح مواجع تقض مضجعي منذ زمن ، وأنا أيضا مثلكم أمارس الهروب ، لكني أمام هجوم الواقع الشرس...في وجهي...وهجوم الصور وتلاحقها بكل ما تحمله من بشاعة المشهد وضحالته، أخرجتني عن سلبية الموقف ووضعتني أمام المواجهة...لأفضح وأعري نقاط الضعف والمرض.
صدمات متلاحقة ومستمرة تعيش وتعشش بيننا فنعتقد أنها ستتلاشى بفعل الزمن، لكني أراها تزداد وتتكاثر كفيروسات المرض وتزرع كل الأعشاب الضارة بين سنابلنا حاملة الخير وبذور المحبة والإخاء، .بل بذور الفكر المتطور وقبول الأخر المختلف ومحاولة تلمس طريقة ما للحوار...محاولة للبحث عن نقاط نلتقي فيها مهما صغرت ...لكن أهم مافي الأمر، هو الاعتراف...نعم الاعتراف الكاثوليكي ...أمام أنفسنا وإن شئتم أمام ربكم فهذا يعود إليكم، لكني أقول أمام الوطن وواجبكم نحوه، أمام أبنائكم ومستقبلهم المعلق في رقابكم.
هل يمكن لمتخلف ومتردي في الثقافة والوعي أن يكون له تأثيراً أكبر على الواعي ومن نعتبره قدوة أو طليعة ــ إن استحق اللقب والتعبيرــ؟ بدلا من أن يكون الأمر عكسياً فيبرع الأقل ثقافة ويؤثر بشكل تراجعي . بعد عدة تجارب مرت أمامي وعايشتها عن كثب وصدمتني إلى درجة جعلتني أصاب بالدوار ، بل أصاب بالرعب من هول ما آلت إليه حالنا!..فهل يعقل أن تأخذ يد المتخلف بيد الواعي وتدحرجه نحو الحضيض ؟
ثم تأتيك الإجابة: "لقد هداه الله ، لقد أخذ بيده فعاد لصوابه واتعض واتخذ عبرة مما حوله"!!!
نعم تسمع هذه الترهات على لسان المنتصر أو المنتصرة في سباق العودة نحو الوراء في سباق التردي والتراجع!!!.لماذا لا يستطيع المرء منا أن يكون هو نفسه دون تزييف؟ لماذا تتعدد وجوهنا؟هل الصراحة مع النفس والمجتمع مضرة إلى حد كبير؟ وهل مقدار ضررها يتناسب ومقدار الكذب وحجمه؟
وودت أن أتمكن من فضح بعض الصور الواقعية التي عايشتها مع أصدقاء قدامى أو صديقات، مع زملاء، .مع معارف ، مع مجتمعي السابق واللاحق، أن أجعل هذه الصور تحدثكم عن نفسها، دون ذكر الأسماء لكني أخشى أن يفسرها الآخر تفسيرا بغير محله، وأن يعتقد الكثيرين منكم أنه المقصود!.وبحكم أننا تعودنا على لغة الاتهام ولغة العتب، ولغة التشويه ، فقد تراجعت نوعاً ما، لأن الأمر لا يفهم كجرأة غرضها فتح الجراح ليتفجر الألم ونسير نحو الشفاء، لأن المرضى أنفسهم لا يعترفون بالمرض، ولا يعترفون أنهم مخطئون، وهنا الطامة الكبرى، لأن كل واحد منهم يعتقد أنه على صواب، وربما أكون أنا الخاطئة بنظرهم...نعم فالأمور نسبية والنتائج بخواتيمها كما يقال.

لكني سأكتب بشكل عمومي ...سأتطرق لمن تاب بعد أن قضى عمره يساريا ودفع ثمن الرفض أعواما من حياته وحياة أسرته، لكنه يعلن التوبة وينتقل بين ليلة وضحاها من الماركسية إلى حياض الإسلام ، فتأخذ الزوجة" المؤمنة" بيده ويذهبان للصلاة والصيام ، يتوب عن السياسة وتستطيع الزوجة بالإضافة لرعب السلطة الخالدة ترويضه، لكنه يجد تبريرات يسراوية لحالته وخيبته فيتهم من بقي من رفاق الأمس ثابتا على موقفه ، أنه الأبعد رؤية والأكثر وضوحا، أو الأكبر حكمة! ــ عفوا الحالة هنا تنطبق على كثيرين ولا تعني فردا محددا بذاته ــ يصاب بضربة إيمان فيقصر ثوبه وتطول ذقنه ويقف خاشعا خلف الإمام ويتسابق مع الآخرين بسبحته الأطول، لكنه حين يغزو بلاد الفرنجة، تعود له يسراويته السرية وتذهب عنه نغمة الإيمان فيبحث عن النبيذ المعتق، لأن الله هنا في الغرب لايرى الناس بنفس العين حيث الزوجة والنظام والجيران والمجتمع، فما هو حرام هناك يصبح حلالاً هنا، العلاقة إذن بالأمكنة!...ففي الوطن المشرقي مثلا، .يتحدث بالأخلاق ولا يتردد أمام بائع الخضار أو من يلعب معه النرد أو يشاركه في النارجيلة أو كأسا من الشاي ،أن يتندروا بما تفعله تلك المرأة من موبقات ويستغفروا الله مرات ومرات، لكنهم لا ينسون بعد النعوت والأوصاف أن ينفضوا عن صدرهم قائلين : على ذمة الراوي!.أو الله يجيرنا ويبعدعنا يارب!، وحالهم كحال الفنانات التائبات في مصر خاصة، وكأن الفن فسق ومجون!
نعم رأيت حين أتيحت لي الفرصة أن أزور وطني للمرة الأولى بعد عقدين من الزمن،ــ وربما لن تتكرر الأمر يتعلق بمزاج النظام لأننا معشر المنفيين لا نصلح للمواطنة!! وحالنا كحال الفلسطينيين بلا وطن، بلا جذور ، وطننا نحمله في صدورنا وحقائبنا ولانملك الحق في هوية المواطنة ولا يتكرمون بها علينا إلا حين نعود داخل صندوق النهاية !ــ

قال لي أحدهم بعد أن رأى مدى جزعي من الفارق بين صورة سورية التي أعرف وسورية اليوم، وذهولي الجنوني لما آلت له الحال المجتمعية من تردي وتشويه ، يطفو الزيف سطحها الملمع بورنيش سلطوي يهمه الحفاظ على هذه الصورة لأنها خير من خدم بقاءه، فاقترح أن أرافقه في جولة بالقرب من المسجد الكبير نهار الجمعة لأرى بأم عيني كيف تحولت شلل حزب الكادحين العلماني ( البعث )، والتي نعرف جميعا كيف كانت تصر على الظهور العلني في إلحادها في منتزهات المزيريب والعجمي حيث يذهبون خصيصا للشراب والسكر حتى الانطفاء ، وهاهم يأتون اليوم يتسابقون فراداً وجماعات، ليقفوا بخشوع في مساجد الله!!.مع أنهم وصلوا إلى مراكز قيادية في الحزب وحصلوا على مكاسب نهبية نقلتهم من طبقة الكادحين، التي نادوا بها وانتسبوا للحزب من أجلها إلى الطبقة الأكثر ثراء وغنى في المحافظة، سيارات فارهة ، مزارع ، بيوت وحدائق، ونساء محجبات عرفتهن سافرات! وبنات وحفيدات " مستورات ومحجبات"، أي بعد أن نجحوا بتفوق في مدرسة الحرامية وعن جدارة صاروا أكثر أيمانا!.

كيف لا أصاب بالصدمة والإحباط؟ وأكتشف يوما بعد الآخر كيف تؤثر زوجة بزوجها الطليعي الفقير ماديا والغني ثقافيا، والذي كنت أتصور أنه سيغير عقليتها وينقلها نحو آفاق رحبة من المعرفة والتطور وسيبني معها ــ بصفتها حبه الكبير ــ أسرة نموذجية رائعة ومثالية!، لكن حاله تنتقل من رذيل إلى أرذل ،فكلما ازداد فقرا منحته مولوداًً جديداً!!، وكلما ضاقت الدنيا بهم وعليهم جميعا، كلما فاجأته باكتشافها الحمل متأخراً حيث لا مجال لإجهاضه!!.الأدهى في الأمر أنه من ينحني للعواصف المتتابعة!!، أنه من يمارس الخضوع والتراجع، وكلما اعتقدت أنها ستقف معه بفقرهما وستبدأ بالعمل فلديها كل الإمكانيات المعرفية والعلمية لتصبح أما عاملة وامرأة منتجة ــ ليس فقط لرعيل من الأبناء وإنما للحياة ــ فتأتي النتيجة بحمل جديد وعليها أن تظل حبيسة المنزل وفنجان القهوة وطق الحنك مع النساء في الحي والتدخين مع بعض البهارات من حديث" هذه فعلت وتلك طلقت وأخرى تزوجت أو زوجت بنتا أو ابنا!".
تحضرني الآن إحدى النوادر التي مرت مع المرحوم( أبو رشا، أي أبو ابنتاي) حين كان طبيبا زائراً لأحد المستوصفات في الأرياف، وقد تعاونوا مع حملة تقوم بها منظمة الأمومة والطفولة من أجل تحديد النسل، فجمعوا نساء القرية وشرحوا لهن طرقا عديدة يمكن للمرأة أن تتبعها للحد من التكاثر المذهل كالأرانب، ثم وزعوا على جميع النساء الحاضرات جهازا لمنع الحمل عليها أن تذهب لطبيبها من أجل تركيبه ( اللولب)، في اليوم التالي حضرت أحدى السيدات وقد علقت اللولب بعنقها كالقلادة، أو كما تعلق النساء حجاب الشيخ ليبعد عنها الحسد وبهذا ستباعد بين المواليد وتحدد نسلها!. ما الفارق بين هذه الريفية البسيطة وبين تلك المتعلمة، التي تعتقد أن زيادة عدد الأبناء تربط الزوج بها أكثر لأن إفقاره يعني الالتزام بها وبأولادها، هذه هي الثقة بين الرجل والمرأة ولماذا تلجأ إليها بعض النساء؟، لأن تعدد الزوجات والسماح به في وطننا سببا هاما في انعدام الثقة، وسببا هاما في انتصار التخلف.
لماذا يكون التراجع ممن يفترض أن يكون الأكثر صلابة في المواقف، وهذا الأمر ينطبق على معظم الحالات التي ذكرتها سابقا!...لماذا يأتي التأثر عكسيا في مجتمعاتنا وهذه النماذج ماهي إلا النذر اليسير والتي أوردها ليس من باب الفضح أو نشر الغسيل القذر ــ علما أنه ضروري في مجتمعنا السوري ، لأن الجميع يسعى للتستر على الوجع والمرض وبه يعتقدون أنهم سينجون ويكسبون...لكن لو سعى كلا منا لكشف ما خفي لتخلصنا من أمراضنا...وإلى الحلقة القادمة.
باريس 8/11/2008



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة