المرأة ... والإعوجاج الدائم 2

عبدالحكيم الفيتوري
dr_elfitouri@yahoo.co.uk

2009 / 5 / 1

ثالثا:العقل المعاصر ينتصر لتأويلات التاريخ

لقد أحكمت بنية العقل الفقهي ثقافة تقديس الأفكار والذوات، وما ترك الأول للأخر شيء، فلا يكن لك قول ليس لك فيه سلف، وبتلك الأرضية الثقافية لم يجد الفكر المعاصر حرجا في التشبث بأساليب الإحالة للتاريخ، ومنطق تعظيم النقل على العقل والنقد. ولعل تعاطي العقل التمجيدي المعاصر لقضايا المرأة كحديث: المرأة خلقت من ضلع اعوج، يشير إلى مدى سيطرة ثقافة التقديس والإحالة على ثقافة النقد والعقل. فمثلا تناول أحد المعاصرين هذا الحديث بذات الإيقاع التاريخي والسياق الاسرائيلي على الرغم من تطور وسائل البحث العلمي الحر، فقال: كثيرا ما أسمع أو اقرأ عبارات وكتابات تتهم المرأة بالعوج والميل في الطباع وكل ذلك ناتج عن فهم خاطئ للنصوص وفهم خاطئ للحديث..(وبعد أن ذكر حديث البخاري وتفسيرات السلف التقليدية)، قال: تخيلوا أيها الأحبة لو خلقت حواء من مكان آخر غير الضلع فهل يستطيع الرجل أن يسكن اليها لو خلقت من ذراعه مثلا ستكون جبارة وقد تبطش بالرجل، وهنا تبرز الحكمة في خلقها من الضلع لتكون منحنية، لأن الضلع له شكل الضم والضم يعبر عن الحنان والسكون، وخلقت من الجانب الأيسر القريب للقلب فتكون عاطفية وحنونه بطبعها.

ثم يستعين بتأويلية حافظ أخر فيقول: وقد قال عدنان الطرشه صاحب كتاب( دليلك الى المرأة ): وكثير من الناس بما فيهم النساء يفهمون خلق المرأة من الضلع على غير مراده، ويقصدون من ذكره تعيير المرأة وذمها ويصفونها بأنها ضلع أعوج ويذكرون في ذلك بعض الكلمات الشنيعة مع أن خلقها من ضلع أعوج هو من بديع صنع الله. ويضيف أيضا: ولو لم تخلق المرأة من الضلع لما تحقق المراد من خلقها، فالضلع الأعوج له وظائف ومزايا وصفات وفوائد متعددة لا تتحقق فيما لو كان مستقيما، أرأيت إلى أضلاع قفصك الصدري كيف تكون معوجة لتصون وتحمي أجهزتك الداخلية: القلب، والرئتين والكبد وأعضاء الجهاز الهضمي( العلوية )وغيرها؟ وهل لو كانت هذه الأضلاع مستقيمة تستطيع القيام بهذه الوظائف المهمة للحفاظ على الحياة ؟! إنتهى كلامه

ويبدو هذا الحافظ أنه أراد أن يستنبط للناس مجموعة من النكات والفوائد من خلق المرأة من ضلع أعوج، وذلك على طريقة الحافظ ابن حجر في ذكر الفوائد بعد شرح الحديث، فقال: إذن لعلنا نستنج سبب فهمنا الخاطئ ونعدله وندرك حكمة خالقنا من خَلْق المرأة من ضلع أعوج التي من أهمها، الضعف: لأن أضعف العظام هي عظام الأضلاع. والحنان والعطف. والحماية: نراها في حماية الأم لأبناءها وغيرتها على زوجها. والمرونه: تتميز عظام الأضلاع بالمرونة. والسكون اليها. والتضحية: لأن عظام الأضلاع تتلقى الصدمة حماية للأعضاء الداخليه. وحاجة المرأة الى فن في التعامل معها لأنها تحتاج الى عاطفة خاصة ورعاية خاصة وعطف خاص، لذا قال عنها صلى الله عليه وسلم: وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا.ا.هـ

واللافت للنظر أن يتأفف عقل أبي مسلم الاصفهاني وغيره من ذوي الألباب في زمن التدوين من قبول روايات وحكايات العهد القديم التي تتحدث على خلق المراة من ضلع أعوج ويردونها من خلال منطق الوحي، بينما يقبل عليها العقل المسلم المعاصر بمنطق تقديسي تمجيدي فريد على الرغم من توافر مناهج التفكير الحديثة ووسائل الوصول إلى المعلومات المتنوعة والتي لم تكن متوفرة ومتاحة في زمن التدوين، وأحسب أن هذه الإمكانيات لو كانت متاحة في زمن التدوين لكان لأؤلئك السلف قول غير الذي قيل. فإذا كان ذلك كذلك فهل يستقم للعقل التمجيدي أن يمارس سلطة التهديد بالضلال والتكفير والزندقة لمن تسول له نفسه أن ينتقد هذه الرواية أو غيرها من أساطير الأولين التي جاءت بها روايات كعب الاحبار وأمثاله ومن أخذ عنهم.

رابعا: تحليل أولي للرواية

-راوي هذه الأحاديث وعلاقته بكتب أهل الكتاب: ولعلنا لسنا بحاجة إلى التأكيد بأن جل روايات أحاديث الغيبيات من نزول عيسى ابن مريم في أخر الزمان، والدجال، والشمس والقمر على قرنين ثور، والمرأة خلقت من ضلع آدم وغير ذلك من الغيبيات التي لم يأت ذكرها في القرآن الكريم، كانت جلها جاءت عن راوية تاريخ الإسلام أبي هريرة الذي اسلم عام فتح خيبر سنة ست من الهجرة، وفي خلال عامين من الصحبة بز كل الصحابة الأولين في الرواية حيث روى ما يقرب من ستة آلاف حديث عن رسول الله.

ولابد لنا من الاشارة قبل تناول علاقة راوي هذه الأحاديث بكتب أهل الكتاب، ضرورة التمييز بين عدالة الصحابي وعصمته، فالصحابي بشر يجوز عليه الخطأ والنسيان وغير ذلك مما يطرأ على الناس في عقولهم ودوافعهم ورغباتهم.وعلى الرغم من بدهية هذه الضرورة إلا أن التربية الدينية التقليدية لم تعر أهتمام بضرورة التمييز بين عدالة الصحابي والترضي عليه وعصمته فجمعت كل ذلك له، وأسبغت عليه بلسان حالها أو مقالها قداسة ورفعته من مرتبة البشرية إلى مصاف الملائكية.

وعلى الرغم من تفهم القلة المختصة في دراسة التاريخ والدراسات الإسلامية أجواء بروز مفهوم عدالة الصحابي الذي تأسس في إطار التدافع المذهبي والفرقي، فإن هذه الحقيقة الأبجدية تغيب عن الكثيرين ممن يتعاطون التاريخ والدراسات الاسلامية بالمناهج الكلاسيكية. ويبدو أن مجرد استنطاق تاريخ مفهوم عدالة الصحابي باعتبار السياق والمساق تضعنا أمام مفهوم مؤدلج دفاعي لمواجهة صراعات مذهبية كانت تطعن في شرعية المذهب السني الحاكم آنذاك، لأن الطعن في عدالة الصحابي يعني أسقاط شرعية السلطة الدينية والسياسية، فالسلطة الدينية تعتمد على فكرة الاسانيد وعلم الجرح والتعديل في إطار أهل السنة مقابل أهل البدعة، والسلطة السياسية ترتكز على الشرعية الدينية ونظام بيعة أهل الحل والعقد في إطار مفهوم الجماعة بمعناه السياسي( أهل السنة،وأهل الجماعة ) مقابل أهل الفرقة والأهواء المناوئين للسلطتين معا. لذلك حرص كل من السلطتيين( السياسديني ) على تكريس هذا الشعار واستخدامه ضد المناوئين، ورفعه في وجه المعارضين لها في ساحات المدافعة، سواء أكانت ساحة المدافعة بالسلاح العلني؛ كالخوارج، أو بالعمل الشامل السري؛ كالشيعة، أو بالفكر السلمي العلني؛ كالمعتزلة وغيرهم.

ويبدو أن مفهوم تعديل الصحبة ولزوم الجماعة في إطار سياقه التاريخي ومساقه الفكري والسياسي مفهوما مؤدلجا استراتيجيا في الفكر السني؛ والذي يساوى فكرة الآئمة عند الشيعة. ومن هنا كان محل اهتمام وموضع رعاية من قبل السلطة( السياسديني )، بمعنى أن تأسيس مفهوم( أهل السنة،وأهل الجماعة ) بالبعدين العقدي والسياسي (=الإلتزام بالمفاهيم والتصورات الدينية) و( =الإلتزام بالسمع والطاعة) لا يمكن أن يبنى مفهوم( أهل السنة والجماعة) إلا على مفهوم تعديل الصحابي وحجية قوله، وبهذا يتسع أفق تأويل النص القرآني بما يخدم سياسات ورؤى السلطة السياسية والدينية على حد سواء، وذلك من خلال تعدد الاسانيد المسندة إلى الصحابة ومن ثم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبذلك تستمر عملية التشريع بعد انقطاع الرسالة ووفاة الرسول عليه السلام، وتصبح سلطة التشريع هذه أداة في أيدي السلطة( السياسدينية) تمكنها من السيطرة على مقاليد الحكم لفترة أطول،وتساعدها على توجيه حراك المجتمع، وضبط الأفكار، ومحاربة المعارضين لفكرة شرعية التوريث السياسي والديني المذهبي.

علما بأن مجتمع الصحابة لم يكن يؤمن بهذه التعديلية التي قاربت العصمة، فقد كان الصحابة أنفسهم يضع بعضهم بعضا موضع النقد إذ كانوا يمارسون الجرح والتعديل للراوي والرواية على حد سواء، فهذا الصحابي عمران بن الحصين ينتقد المحدثين من الصحابة، بقوله: والله لو أردت لحدثت عن رسول الله يومين متتابعين، فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم. كذلك فعل عمر بن الخطاب مع أسماء بنت قيس حيث قال: لا نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. وقد ذكر الرازي في كتابه المحصول من علم الأصول مجموعة من هذه المراجعات والانتقادات بين الصحابة التي تثبت بما لا مجال فيه للشك بأن مفهوم تعديل الصحابي كما هو متداول عند المسلمين لم يكن معروفا عند جيل الصحابة، وإنما هو مفهوم منتج في سياقه التاريخي التدافعي ومساقه العقدي المذهبي. ويمكن لنا اكتشاف هذا بأخذ نموذجا من نقد الصحابة لأبي هريرة الذي لم تدم صحبته لرسول الله أكثر من عامين، لكنه كان أغزر الصحابة رواية، واوسعهم نقلا عن كتب أهل الكتاب، وأكثرهم مجالسة لكعب الأحبار(=اليهودي سابقا)،وبالمناسبة فإن أبا هريرة هو راوي حديث المرأة خلقت من ضلع أعوج.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة