فتحية التي هدموا منزلها للمرة الثالثة:

دنيا الأمل إسماعيل

2004 / 9 / 20

قدمها المتضخمة من أثر جبيرة أجبرها عليها الانكسار والألم، كانت تتمدد أمامها قريباً من فتحة الباب المطل على حوش مدرسة الخنساء، التي أصبحت بلا سابق إنذار مكاناً بائساً للإيواء بدلاً من كونها طاقة نور للعلم والمعرفة.
امرأة في متوسط العمر، بملابس تقليدية ووجه ممزوج بالتحدي والاستسلام معاً، كانت فاتحتي في هذه المدرسة التي أزورها بعد جولة قصيرة في تل السلطان بحدادها العام والعميق. أعترف أنني لم أكن أنوي الوقوف على قصة كل فلسطيني وفلسطينية في هذه المدرسة/ الإيواء، إذ كنت معنيّة بالألم العام، لكن إحداهم لكزتني في كتفي من الخلف وهي تقول:" هذه المرأة، لاجئة للمرة الثالثة" فوجدتني تلقائياً أنزع عن كتفي عبء الكاميرا والحقيبة الكبيرة التي ملأتها بأوراق و أقلام وألوان ودفاتر رسم وألعاب صغيرة، خجلت من توزيعها في موقف وجدته أكبر من تعاطفي البسيط. جلست على الأرض على حافة الحصيرة التي تفترشها أسرة هذه السيدة الكبيرة، أشرت بيدي أن لا حاجة لكرسي وتفضيلي الجلوس بجوارها كما هي بقدمها الكسيرة وامتنانها الذي بدا من صوتها لأحد أخير يسمع قصتها. كان أبناؤها وبناتها وأحفادها وزوجها وزوجته الثانية وأولادهما يحيطون بها من كل جانب، فيما الأغراض المنزلية البسيطة تنتشر هنا وهناك، بقايا من الخبز الجاف ترتكن على حافة اللوح المدرسي، بدلاً من طباشير الدراسة العاطلة عن العمل الآن. حائط من الفرشات تستند على جدار قصي في أقصى الغرفة، تبدو من حالتها أنها مما جادت به الأيدي الكريمة والفقيرة في هذه البلاد. ضرتها في الجهة المقابلة لها تلقم ابنها الصغير ثديها، صامتة تقلب عينيها في المكان حائرة غير مصدقة، بدت لي صغيرة جداً على رجل أقعده الهم حتى عن مجرد الحديث مكتفياً بالصمت والاستماع لزوجته، وهي تسكب آلامهما أمام العابرين أمثالي.
حين بدأت الحديث كانت المأساة الأخيرة هي الأكثر حضوراً لطزاجتها حتى أنها تذكر تفاصيل يومها المفجع بتاريخه وساعته، تقول: ذاك اليوم، مثل أيام كثيرة في حياتي، سيظل محفوراً في ذاكرتي، كان يوم الأربعاء 12/5 ، حوالي الساعة الرابعة والنصف عصراً. طائرات الأباتشى تملأ السماء بصوتها وقذائفها التي تتهاوى على رؤؤس الناس كمطر غير مشفوع له بالنعمة، لم أستطيع من أين أو إلى أين تتجه القذائف، الوضع مشوش تماماً، زوجي خارج المنزل، لم أكن أدري ماذا أفعل، كنت أسمع على طول الشريط الحديدي في بلوك O، حيث أسكن، أصوات انفجارات وأًصوات سيارات الإسعاف ، لكني لم أكن أملك من الأمر شيئا، فقط جمعت أبنائي وبناتي وأحفادي وبقية الأسرة، وطلبت من ضرتي في الطابق الثالث من المنزل النزول عندنا هي والأولاد، ثم نزلنا جمعينا إلى الطابق السفلي، وجلسنا ننتظر قدرنا، بعد أن فشلنا في الخروج والذهاب إلى مكان آمن ، الطائرات من فوقنا والدبابات تحيط بالمنزل والطرق الرئيس، كنت أموت من الخوف ولا أستطيع أن أقول ذلك حتى لا ينهار الجميع فابني الكبير وأبيه خرجا بعد أن أعلنوا عن اعتقال الشباب والرجال، ولم يأخذوا معهم شيئاً، ولا أعرف عنهما شيئاً، والأطفال الصغار في المنزل والفتيات بدأو بالبكاء وضرتي تمسك بصغيرها بين يديها وتبكي وأنا أجول في المساحة الصغيرة التي حشرنا فيها أنفسنا من الطابق الأرضي من المنزل واعتقدنا أنها الأكثر أماناً، أهديء هذا وأطبب على تلك دون جدوى ، وأنا أعرف أن الخطر كبير وأنه ربما يصل إلى عقر دارنا. استمر الحال هكذا ساعات وصوت الرصاص الثقيل والانفجارات لم يتوقف لحظة واحدة، حتى شعرنا باليت يهتز هزة عنيفة جداً، صرخ الجميع ، الكبار نطقوا بالشهادة وهم لا يعرفون أين يحمون الصغار. وفجأة وجدنا البيت ينهار فوق رؤوسنا، صرخت فيهم جميعاً اخرجوا ... اخرجوا... اهربوا الصغار لا تتفرقوا اهربوا... حتى صرخت من شدة الألم وأنا أرى أحد جدران منزلي ينهار علّي لم أتمكن من التحرك السريع فوقع الجدار على جانبي الأيمن، وشاهدت دمي ينفر أمامي من عروق ساقي وقدمي، وعظامي ولحمي يتهتك بلا معين يشفع له بالرحمة، كنت أعلم أن الصراخ لم يكن مجدياً فلا أحد في البيت والألم لن يتوقف وإذا بقيت هكذا أنزف فسأموت حتماً دون أن يدري بي أحد، لا أعرف كيف تحاملت على نفسي وألمي، وتحديت نفسي وقاتلي وأنا أزيح أكوام الحجارة عني،بعناد وصبر أخذ مني ساعات حتى تحررت وأمسكت ساقي وأنا أضغط عليها زاحفة في وضع القعود ، وأنا أحمد الله أن مدخل البيت لم يُسد من الهدم.. حتى وصلت الباب الخارجي ووجدته هو والحائط الخارجي أكوام حجارة ما تطلب مني أن أزيح ما يعلق بطريقي منها وأنا أصرخ وأنادي على المساعدة، رغم شكي في الحصول عليها في هذه الحالة من الموت المستمر. لكن رحمة الله غلبتني، إذ التقطت استغاثتي سيدة كانت تمر في المكان، فسمعتها تقول إني قادمة أين أنت وأنا أدلها على مكاني حتى وصلتني وحملتني قدر استطاعتها حتى الطريق الرئيسة، فرأوها شباب الإسعاف، وفوراً جروا إلي ونقلوني إلى مستشفى أبو يوسف النجار. وهناك أجروا لي عملية عاجلة وزرعوا في ساقي مسمار بلاتين يقيها من الكسر الدائم ثم قاموا بتجبيرها، وبعد أقل من يومين أخرجوني من المستشفي لأترك مكاناً لجريحة أو جريح أخر، فصممت على العودة إلى بيتي، فحملوني إليه مع زوجي، ففوجئنا بما حلّ به لم يكن منزلاً، كان كومة من تراب وحجارة، بكيت ولطمت وجهي، حتى غبت عن الوعي، فأفاقوني بجرعة ماء أحضرها بعض من رافقونا الذهاب، زوجي بكى بحرقة فاقت حرقتي، إذ أصبحنا في ليلة دون ضحى مشردين معدمين، فوقفنا ذاهلين لكن صوتي انطلق من سكوته مولولاً ناقماً محوقلاً ومحتسباً عند الله ما جرى.
لا هل هذا كل ما جرى.. لا .. فالمأساة قديمة والقصة مكررة ، القاتل واحد والمقتول واحد مع اختلاف التفاصيل والزمن، وربما أيضاً المواقف.
ففي الانتفاضة الحالية، هذه الفلسطينية البسيطة نفسها يهدمون بيتها للمرة الثانية بدعوى أن مقاومين يستخدمون سطح منزلها في قنص الجنود الإسرائيليين المنتشرين على طول الحدود حيث يوجد منزلها. وهي نفسها أيضاً التي وقفت تصد الجنود عن ابنها الذي أصيب بثلاثة رصاصات مختلفة في رأسه، أثرت على نظره ثم تفجع في ابنها الثاني نضال حين أصيب برصاص من عيار 800 ملم في يده اليسرى ليصاب بالشلل طيلة عمره حتى بعد أن أجروا له عملية جراحية أخذوا فيها شرايين من قدم لترقع بها اليد ولكن الحال ظل لا يسر وتظل اليد التي ناضلت حبيسة جهاز مساعد طيلة الوقت حتى أثناء النوم.
وفي الانتفاضة الأولى، هذه الفتحية البسيطة نفسها تعيش تجربة هدم منزلها للمرة الأولى، بدعوى تخبئة السلاح، ويصاب ولدها الأكبر في حادثة لن تكون الأخيرة، فكيف للآمنين أن ينسوا فقد البيت، .
وفي كل المرات تنهض فتحية وأسرتها من أحزانهم وآلامهم ويبنون بيتهم من جديد، وفي كل مرة تستمر الحياة بمنوالها القديم الجديد وتخرج فتحية من كل تجربة بجرح وهم في القلب واصرار يملأ الروح وسكر يغزو الجسد بعد أن أوهنه النضال وحيداً . فهل يظل وحيدأ.




كادر:
فتحية عبد الرحمن أبو طيور،
السن: 46 سنة،
البلدة الأصلية: صرفند العمار،
مكان الإقامة: رفح، بلوك o، منطقة القصاص، على الشريط الحدودي مع مصر،
الحالة الاجتماعية: متزوجة، وأم لعشرة أبناء(7 بنات، 3 أولاد)،
الحالة الصحية: مريضة سكر، مصابة في قدمها اليسرة بكسر وتهتك في العظام،
الضرر: هدم منزلها المكون من 3 طوابق على ما فيه من أثاث.

انتهى



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة