مَن يكره عيدَ الأم؟

فاطمة ناعوت
f.naoot@hotmail.com

2017 / 3 / 21


ونحن أطفالٌ في مدارسنا، كان عيدُ الأمّ بالنسبة لنا يحملُ الشيءَ ونقيضَه. كثيرٌ من الإثارة والشغف، كثيرٌ من القلق والمنافسة، كثيرٌ من الحزن والشفقة والشعور بالذنب.
نشعرُ بالشغف والإثارة ونحن نختبيء في زوايا غرفنا، قبل عيد الأم بأيام، لنكسر الحصالات ونعدُّ القروشَ النحيلة التي "حوّشناها" شهورًا طوالاً من أجل ذلك اليوم حتى نشتري هدية تليقُ بالشخص الجميل الذي تتعلّق عيونُنا بعينيه. نفرحُ حين تفرح تلك العينان، ونخافُ إن مسّهما غضبٌ: ماما. نهزُّ الحصالات التي تأخذ أشكالا عديدة: قطّة، قرد، خنزير، سفينة قراصنة، لنزِن بأيدينا وزنَ العملات المعدنية الحبيسة بالداخلح علّنا نخمّن كم جنيهًا ستصنعُ حين "نُجمّدها" عند العمّ الطيب على رأس الشارع. ثم نذهب إلى المحال نختالُ بثروتنا الصغيرة ونشتري ما تجودُ به المحالُّ وما يليقُ بخيالنا الجموح الذي يريدُ أن يشتري العالمَ لـ ماما. ثم يضربنا القلقُ حين نسرح بأفكارنا ونُخمّن ماذا سيجلب الشقيقُ الأكبر (الأوفرُ مصروفًا)، والصديقةُ التي تسكن في الجوار، وأولاد الخالة. هل سيتفوقون علينا في هداياهم، أم ستفوق هديتُنا ما يجلبون؟ لونٌ من المنافسة "الحُلوة" لم نكن نراها هكذا حين كنّا صغارًا. نذهبُ إلى مدارسنا في اليوم التالي، فتوزّع المعلماتُ علينا مظروفاتٍ صغيرة بيضاء، بداخلها كروتٌ ملوّنة تحمل صور ورود وزهور ومكتوبٌ عليها كلاشيه ثابت: “كلُّ عامٍ وأنتِ بخير يا أمّي. ابنتك المطيعة/ ابنك المطيع ....” والمطلوب منّا أن نملأ تلك النقاط بأسمائنا. أذكر جيدًّا أنني تحيّرتُ سنواتٍ وأنا لا أعرفُ معنى كلمة "المطيعة"! وربما لو أدركتُ معناها وقتها لشطبتُ عليها وكتبتُ محلّها: "المشاكسة، العنيدة" أو كلمة أمي الأثيرة التي كانت تنعتني بها دائمًا، دون أن أفهم معناها أيضًا: “اللِمْضَة". تقولُها مرةً وهي تضحك فخورةً بي، فأفهم أنها مديح، وتقولها مرّاتٍ وهي غاضبةٌ مستنكرة، فأدركُ أنها انتقادٌ وهجاء! تجولُ عيونُنا في الفصل من حولنا فنجد تلميذًا تدمعُ عيناه وهو يتسلّم الكارت الخاص به ولا يدري ماذا يصنع به، أو تلميذةً تُطرق برأسِها فوق الديسك لتُخفي عينيها عن عيوننا. هذا أو تلك لا يُحبّان تلك الكروت التي وُزِّعت علينا، لأن المُرسل إليه: غير موجود. الأمُّ التي غادرت العالم، كيف نُرسل لها هذا الكارت أو تلك الهدية. هنا يبدأ الشعور بتأنيب الضمير لأن صديقة لنا أو صديقًا، ليس لها ما لنا من نعيم وفرح. الأم. هذا الفريق الحزين من الأطفال، لا يحبُّ عيد الأم، لأنه يُربِكُ حساباته ويفتح له سؤالاً وجوديًّا صعبًا: “أين أمّي... لماذا أقراني لهم ما ليس لي؟" مثلما يفتح لنا نحن المُنعّمين بوجود الأم سؤالاً لا يقلُّ عُسرًا عن سؤالهم: “أين أمّهاتهم.... لماذا لنا ما ليس لأقراننا؟" سؤالهم مضفورٌ بالحزن والشعور بقلّة الحظ، وسؤالنا مضفورٌ بالأسى ومرارة الشعور بالذنب.
اليومَ، وقد غادرتني أمي قبل سنوات، أراني قد انضممتُ إلى ذلك الفريق الذي يحملُ له عيدُ الأم شيئًا من المرارة. أين أمّي التي بوسعي الآن شراء نفيس الهدايا من أجل عيدها؟ هي الآن في مكان كلُّه هدايا وشموسٌ ونجومٌ وألماساتٌ وأنهارٌ من اللؤلؤ النقي. هي الآن حيث تصدحُ الموسيقى وتُشقشقُ العصافيرُ بالنغم والشدو. هي الآن في حضرة الله الغنيّ السخيّ الذي يُحبُّ الأمهاتِ بقدر ما أحببنّنا ووهبنّنا من فيض حُنوّهن وطويل سهرهن لكي ننام ونكبُر.
لكنّ الأمهات قبل أن يسافرن للسماء يتأكدن أنهن تركن لأولادهن بدائلَ تملأ الفراغَ البارد الذي سوف يصنعه غيابُهن. هكذا فعلت أمي. تركت لي أمًّا جميلة فتحت جناحيها لتضمَّني مع صغارها الأربعة، فأصيرُ خامستَهم. فكأنما أمي قبل أن تسافرَ للسماء قد وهبتني أمًّا وأربعةً من الشقيقات والأشقاء. فأيُّ حظٍّ ملأ حياتي وأيُّ فرحٍ حلّ محل حزني على رحيل أمي!
شكرًا لأمي الحقيقية "سهير" التي صنعت منّي إنسانًا جادًّا، وكل سنة وأنت طيبة حيثما تكونين في أي زاوية من زوايا فردوس الله الأبهر. شكرًا لأمي الروحية "آنجيل" التي أكملت مسيرة أمي الراحلة، وكل سنة وأنت طيبة تملأين حياتي حُنوًّا وحبًّا ورعاية وثقةً في أن الله يمنحُ قبل أن يحرمَ، ويهِبُ قبل أن يأخذَ. فإن منحَ، فلا مُنتهى لما يمنح، وإن وهب، فلا أسخى من هداياه.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة