تداعيات ما بعد «إسراء غريّب» تفتح على نقاش أشمل

ريما كتانة نزال
nazzalrima@gmail.com

2019 / 9 / 24


يقولون إن الألم بعد الموت يتلاشى ويختفي تدريجياً بعد الدفن، ربما يصح هذا القول في حالة الموت الطبيعي، لكن في قضية «إسراء غريّب» لا يمكن أن يختفي الألم أو يتم التأقلم مع وفاتها حتى بعد صدور تقرير النائب العام؛ لأن السيف ما زال مسلطاَ على رقاب النساء.

لم نتعافَ من قضية إسراء لأنها أظهرت المجتمع الفلسطيني أمام الرأي العام بشكل بشع، ولأنها شوشت على روايتنا كمعنفات من الاحتلال، لم نتعافَ لأن الدواء يبدو صعب المَنال، دواء القوانين والسياسات المطلوبة لحماية النساء وردع المعتدين.

لم نتعافَ بعد، حيث تتصدر قضية «إسراء» بعناوينها القانونية والقيمية، اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات النسوية والمجتمعية، وباتت النقاشات تتشعب لتأخذنا نحو ما تحت القشرة من مُسلّمات، نحو تقييم الواقع ارتباطاً بالخطاب النسوي وأدواته التنظيمية مقارنة بالتقدم المُحرز؛ لنجد أنفسنا في المربع الأول، بعد خمس وعشرين عاماً من قيام السلطة، قليل من الإنجازات وكثير من الكلام والوعود، وكم هائل من الانضمامات للمعاهدات الحقوقية.

الأسئلة المثارة تطال جوانب عديدة وتدور حول ما الذي يحصل؟ وما الذي يعيق التقدم والتطور في المجتمع؟ وهل المشكلة في الخطاب النسوي أم السبب يكمن في الأدوات النسوية أم الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني؟

مع كل محطة اختبار تتزايد القناعة في أوساط الحركة النسائية أن التقدم المحرز من القضايا النسوية على مدار خمسة وعشرين عاماً من قيام السلطة ليس جوهرياً، وما تحقق يتمثل بتعديلات محدودة على قوانين الاحوال الشخصية وقوانين العقوبات؛ علاوة على تعاميم وقرارات ليس لها قوة القانون، اضافة الى بعض المبادرات الناجحة التي أدت إلى إقرار «الكوتا» في قوانين الانتخابات العامة والمحلية، علاوة على إقرار قانون العمل المتقدم قياساً بما هو عليه في الدول العربية من جهة أخرى.

وبكلمات أخرى، فان جميع التعديلات والتعاميم المشار اليها أعلاه لا تلبي الاحتياج الحقيقي للمرأة، وهي بعيدة كل البعد عن هدف التغيير الاجتماعي، فما زالت عجلة التغيير متوقفة إن لم نقل أنها بالاتجاه المعاكس للتقدم، قياساً بالزمن. حيث لم تترافق جميع التدخلات مع سياسات وإجراءات شاملة توعوية تُحدث المفاعيل اللازمة لتغيير المفاهيم والثقافة السائدة.

وعلى الجانب الآخر، فإن إشكالية ذاتية يجب ان تُرى بوضوح ؛ تتمثل في ضمور وتراجع القاعدة الجماهيرية المحيطة بالحركة النسائية، وهو إخفاق لا يقتصر على النساء فحسب بل مسّ أيضا الحركة الوطنية بكل مسمياتها والتي أخفقت في استعادة جماهيريتها السابقة رغم الحديث المكرور عن التجديد والمراجعة من قبلها.

ما بعد إسراء، فتح النقاش الذي يجب ان يتواصل ويتم منهجته حول الخطاب النسوي والاشكاليات التي يواجهها، وهل هي متعلقة بماهيته من حيث المكونات والسياسات والبرامج والادوات، أم انها مرتبطة بشيء أشمل يطال عموم الوضع الفلسطيني وهو ما يتطلب إعادة تقييم لجميع العوامل التي أعاقت التغيير الاجتماعي.

لا يوجد ادنى خلاف بأن الوقت قد حان لتجديد الوثائق البرنامجية لجميع الأطراف النسوية بالاستناد إلى تحليل فكري للسياق الوطني والاجتماعي دون مواربة.

وفي هذا المجال أرى موجباً الإقرار بأن البرنامج النسوي الذي تتبناه جميع الأطر النسوية ينطلق من السياق الفلسطيني تحت الاحتلال وفي ظل هيمنة ثقافة أبوية تقليدية ومحافظة. ورغم صوابية وسلامة البرنامج النسوي الخاص بتلازم المسار الوطني مع المسار الاجتماعي بوجه عام، إلا ان لحظ حقوق النساء الحقوقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية له اولوية لا تقبل التأجيل، من نوع إجراء تعديلات على القوانين برمتها مع التركيز على القوانين ذات الصلة المباشرة بحقوق المرأة؛ وجسر الفجوة على مستوى مشاركة المرأة في مراكز القرار؛ عبر تبني التمييز الايجابي في قوانين الانتخابات لها ايضا أولوية.

وبقناعتي ان التجديد المطلوب حالياً للخطاب النسوي يتمثل في امتلاك الخطاب تحليلاً عميقاً لطبيعة العوامل التي تعترض تطوير المسار الوطني والديمقراطي، كون قضية المرأة قضية حقوق ديمقراطية، تستوجب تلازمها مع تعزيز الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وأن تُحدَّد بوعي العقبات والمعيقات التي تعترض الإقلاع في الخيار الديمقراطي دون تردد كونها أحد الأهداف الرئيسية التي ينبغي تبنيها في الخطاب والبرنامج النسوي.

ولا يختلف اثنان ان المعيق الأول للديمقراطية هو الاحتلال بطبيعته المعادية للاستقلال والمعيق للممارسات الديمقراطية كإجراء الانتخابات. والعامل الثاني يتمثل في الانقسام وانحسار سقف الحريات العامة في الضفة وغزة وتراجع حقوق المرأة عبر إصداره القوانين التمييزية ضد النساء والتدخل في حياتهن الخاصة وتحديداً في قطاع غزة، كنتيجة حتمية لحكم يستخدم السلطة السياسية من أجل تديين السياسة.

أما المعيق الرئيسي الثالث، فيتمحور حول طبيعة السلطة الحاكمة وثقافتها الشعبوية وغياب مضمون اجتماعي واضح تشرع بموجبه في تبني التغيير الاجتماعي المطلوب والالتزام بمبادئ الديمقراطية، وإعلاء شأن العدالة الاجتماعية وتطبيق حقوق المواطنة على المرأة كما تنطبق على الرجل. لها ما له من حقوق، وعليها ما عليه من واجبات.

وخلاصة القول فإن شرط تجديد وتطوير الخطاب النسوي الذي حركت سواكنه صدمة مقتل «إسراء غريب»، يتلخص بأهمية بناء وتطوير الديمقراطية الفلسطينية بما هي قضية نضالية لا تخوضها النساء وحدهن، بل هي عملية يخوضها المجتمع بأسره، الرجال والنساء معاً في إطار تلازم المسارين، الوطني والديمقراطي، بما يعني ان النضال من أجل الحرية والاستقلال الوطني يخدم ويؤكد حمل لواء تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي القلب منها حقوق ومكانة النساء، فالمساواة لا تتحقق بمعزل عن الخيار الديمقراطي، كون قضية المرأة هي قضية حقوق ديمقراطية وحقوق إنسان بامتياز



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة