عندما يتأنّث العنف

هدى بحروني
clio_103@hotmail.fr

2020 / 7 / 5

دارت أهمّ أطاريح جزء من الحركات النّسويّة حول ما يسلّطه المجتمع الأبويّ الذّكوريّ من ظلم وحيف وميز على المرأة وما يحبو به الرّجال من حظوة وتمكين، واتّجه النّضال نحو إعادة ترتيب السّياقات المجتمعيّة بما يضمن حقوق المرأة ويعزّز مكاسبها ويلغي الفجوات التي خلقها المجتمع بين النّوعين ويكفّ العنف ضدّها. وقد ارتكزت هذه الأطاريح على تمثّلات مجتمعيّة تذكّر العنف وتجعله أحد اختبارات الرّجولة من حيث إحالته على القوّة الجسديّة والجسارة، وتجعل الأنوثة قرينة اللين والضّعف والوداعة واللّطف والهشاشة، ففي العنف يُتمثّل الرّجل فاعلا والمرأة(أو شبيهها:المثليّ، والأسود، السّجين...) مفعولا به بما ينتج واقعا غير متوازن. ولكنّ السّياقات المجتمعيّة المتحوّلة قد تنتج ما يربك هذه التّمثّلات ويخيّب انتظارات المجتمع حول نمط الأنوثة الّذي بناه وشكّله وفق معاييره الخاصّة ويجبر النّسويّات على مراجعة مرتكزات نضالهنّ وممارسة نقدهنّ الذّاتي، وتقبّل النّقد من خارجهنّ، فقد يغدو العنف أنثويّا تمارسه بعض النّساء على النّساء أو على الرّجال على حدّ سواء. ولعلّنا نجد في السّياق التّونسيّ في هذه العشريّة الأخيرة أمثلة كثيرة لنساء مارسن العنف ضدّ الآخر في الفضاءات الخاصّة(عنف منزليّ ضدّ الأبناء والأزواج والأقارب)وفي الفضاءات العامّة حيث تمارس نساء من النّخبة السّياسيّة العنف اللّفظيّ من أجل تعزيز المواقع وتسجيل النّقاط على الخصوم والمخالفين وتوسيع الدّائرة الشّعبيّة والحظوظ الانتخابيّة، وكذلك لنساء من عامّة الشّعب يمارسن العنف ضدّ رجال ونساء بشكل مشهديّ استعراضيّ لا يختلف عن مشاهد العنف الّتي يمارسها الرّجال في الواقع أو في بعض الأعمال الفنية كأفلام الحركة. وأمام تعدّد هذه النّماذج آثرنا أن نتوقّف عند عنف النّساء في الفضاء العامّ من خلال بعض المشاهد الّتي عنّفن فيها نساء أو رجالا لهم حمولة رمزيّة اكتسبوها من خلال تمثيلهم لمؤسّسات الدّولة كالمدرسة أو المعتمديّة أو البلديّة أو المحكمة أو الوزارة أو أيّ إدارة من الإدارات الأخرى ونتبيّن كيفيّة تقبّل المجتمع لها سواء على مستوى التّفاعل الاجتماعيّ أو على المستوى القضائيّ والقانونيّ والحقوقيّ. فقد شهد المجتمع التّونسيّ حالات عنف نسائيّ داخل أسوار المدرسة استهدفت القائمين على العمليّة التّعليميّة والتّربويّة من معلّمين ومدراء وعملة والشواهد على ذلك كثيرة منها ما نشرته الشروق أون لاين بتاريخ 15-12-2017 من أنّ الإطار التربوي بمعتمدية طينة من ولاية صفاقس نفّذ وقفة احتجاجيّة على خلفيّة اعتداء تلميذ ووالدته على مدير المدرسة مخلّفين له أضرارا بدنيّة اقتضت خضوعه للإسعاف والمراقبة الصحيّين بالمستشفى. وفي السّياق ذاته نشر موقع تونس كوب بتاريخ 05-02-2019 خبر حكم قضائيّ ضدّ وليّة تهجّمت على معلّم ابنتها أحمد الطرابلسي بالقسم في مدرسة بمدرسة القومية بن سعيد بصفاقس وعنّفته ونعتته بأوصاف عنصريّة على خلفيّة بشرته السّوداء وقد جمع الحكم بين السجن والخطية المالية.
أمّا في السياق السياسيّ فنذكر بعض الأمثلة أوّلها يتعلّق بما نشر في موقع وات بتاريخ 22-11-2011 من تعرّض النّائبة عن حركة النهضة سعاد عبد الرّحيم للتّعنيف من قبل مجموعة من النساء اللّواتي ضربنها بلافتات كرتونيّة عليها بعض الشّعارات وقد نعتتهنّ ب"أعداء الدّيمقراطيّة"واعتبرت أنّ عنفهنّ ضدّها لا يمكن أن يقع في دائرة حريّة التّعبير. أمّا المثال الثّاني فيتمثّل في اعتداء امرأة على معتمد مدنين الشماليّة بتاريخ 25-12-2016 بالعنف اللّفظيّ بدعوى أنّها لم تتحصّل على حقّها في المساعدات الاجتماعيّة...وأمّا المثال الثّالث فيتعلّق بما تعرّض له معتمد سيدي حسين محمد كمال بوجاه من عنف لفظيّ وماديّ من قبل إحدى الموظّفات بتاريخ 03-10 -2016 بدعوى أنّه تحرّش بها وقد رأينا من خلال الفيديو تحمّس بعض الحاضرين لهذه "الاحتفاليّة"واستنكرها البعض الآخر.
إنّ هذه النّماذج وغيرها تدعو إلى التّأمّل والتّفكيك والمساءلة على مستويات ثلاث:مستوى نتفهّم فيه النّساء اللّواتي يعتمدن العنف لحسم معاركهنّ وإدارة ما يعرض لهنّ من صعوبات ومشاكل، ومستوى نتفهّم فيه نمط الذّكورة القابلة للعنف والإخضاع، ومستوى نتفهّم فيه الكيفيّات الّتي يتلقّى بها المجتمع مشهد تعنيف النّساء للرّجال أو للنّساء. أمّا على المستوى الأوّل فيأتي مشهد ممارسة النّساء للعنف متناغما مع السّياق الاجتماعيّ الّذي خلقه الرّبيع العربيّ وهو سياق ضعفت فيه مؤسسات الدّولة وأجهزتها وتنامى فيه مدّ الفوضى والعنف، وبرز فيه شعور التّشفّي والانتقام من كلّ من يمثّل شكلا من أشكال السّلطة ويرمز إلى مؤسسة من مؤسسات التنشئة والضّبط(العائلة-المدرسة- البرلمان- الوزارة...)فالوليّة(وهي الأمّ غالبا) التي تقتحم الفضاء التربويّ وتعنّف المعلّم/ة على مرأى من ابنها ومن المتعلّمين، تعمل على كسر صورة المعلّم النّمطيّة الّتي يجمع فيها بين وظيفتي التّعليم والتّربية وتدفع نحو إعادة ترتيب الأدوار بشكل يرفع يد المعلّم عن مسألة التّربية والتّنشئة الاجتماعيّة وبالمقابل يوسّع صلاحياتها ويجعل" التربية" مهمّة العائلة وحدها، وهو أمر يوفّر لها(المرأة) حظوظا أوفر في امتلاك السّلطة داخل الأسرة ويزيح منافسها(المعلّم).
أمّا العنف الّذي تمارسه المرأة ضدّ مسؤول(معتمد- وال-نائب-وزير...)فيفهم من جهتين:
الجهة الأولى هي كون المسؤول جزءا من الدّولة الّتي أسّست تاريخا ثقيلا من انعدام العدالة بين الجهات وبين الطّبقات وبين النّوعين وبين المختلفين، وتاريخا من احتكار العنف وممارسته وشرعنته وتبريره، ومن إخضاع الشّعب بالقوّة والقهر، ووفّرت بالمقابل مرتعا خصبا للفاسدين والانتهازيين والنّاهبين لثروات البلد.
والجهة الثانية هي أنّ ضرب المسؤول بصفته رجلا، يثبت من جهة، أنّ المرأة ليست كائنا هشّا ضعيفا بل هي قادرة على امتلاك أدوات بناء الرّجولة (الجرأة-القوّة الجسديّة-الجسارة) لذلك هي تستحقّ أن تُمنح شرف التّفوّق في جنسها(للّات النساء- بنت أمها) وصارت جديرة بوسام الرّجولة(رُجْلَة)بل بالتّفوّق فيها(مرا بألف راجل-أكثر رجوليّة من...)ومن جهة ثانية، تؤكّد المرأة العنيفة أنّها قادرة على حماية تمثّلات المجتمع الذّكوري حول الجسد الأنثويّ باعتباره شرفا رجوليّا لذلك سارعت الموظّفة المعتدية على المعتمد بتبرير عنفها بكونه ردّا طبيعيّا على تحرّشه بها، ويكفي أن تثار مسألة الشّرف حتّى يلقى تعنيف الرّجل جمهورا مساندا. أمّا ضربه باعتباره ممثّلا للدّولة فنرى فيه عمليّة رمزيّة مشحونة بالتّشفّي والانتقام. وهكذا فإنّ مشاهد عنف المرأة ضدّ الرّجل تكشف عمّا تحتويه هذه الممارسة من تناقض وازدواجيّة، فالمرأة تضرب الرّجل لتتشبّه به ولتحمي تمثّلاته حول الجسد الأنثوي باعتباره شرفه ورأسماله الرّمزيّ.
واللّافت للانتباه أنّ أيّا من هذه النّماذج السّياسيّة(من الجنسين)لم تردّ على العنف بالعنف ولا نعتقد أنّ ذلك عائد إلى عجز وضعف جسديين وإنّما المواقع الّتي تحتلّها الأطراف المتعرّضة للعنف في الدّولة أوفي الأحزاب جعلتهم لا يمثّلون أنفسهم ولذلك كانت لهم قدرة على ضبط النّفس وعلى تجنّب الرّدّ الانفعاليّ وتشغيل الذّهن باتّجاه استثمار هذا العنف سياسيّا، فقد كانت ردودهم محسوبة، وخيّر جميعهم أن يكون في موقع المظلوميّة ويحيل الأمر إلى القضاء حتّى يثبت التزامه بالسلوك المدنيّ وميله إلى نبذ العنف ممّا يمكّنه من تسويق صورة مدنيّة تناهض الأساليب العدوانيّة وتقدّم تنازلات من أجل حفظ السّلم الاجتماعيّ سواء للدّولة الّتي يمثّلها أو للحزب الّذي ينتمي إليه. وقد انطوى، كذلك، تبرير معتمد سيدي حسين لعدم ردّه على المعتدية بالأسلوب ذاته على استباق لأحكام الوصم الّتي ستلحقه إثر تعرّضه للضّرب أمام النّاس فهي"إمرأة" وليس من شيم الرّجولة ضربها، وقد انقسم النّاس أمام هذا التّبرير إلى قسم يثمّن هذا الترفّع ويعتبره زيادة في الرّجولة، وقسم يرى أنّه ليس من الرّجولة أن يتقبّل هذا العنف بسلبيّة كبيرة بل إنّ المُعَنّف فقد شرف رجولته ولم يعد جديرا بها بل صار عارا على الرّجال(موش راجل- ملّا رويجل مادد وجهو لمرا وهي تضرب فيه- ملّا أنثى...) ويفترض أنّه لو كان مكانه لـ"مرمدها- كسرلها خليقتها- كوّر بيها وورّاها الرجال آش تعمل". وهذا الانقسام وعدم التّجانس في المواقف وجدناه في كيفيّة تقبّل الجمهور لعنف المرأة،أيضا، فالبعض قد رآه انزياحا من"الجنس اللّطيف" إلى جنس"يا لطيف"وهو انزياح مشوّش للتّمثّلات الّتي يحملها حول"الأنوثة" ومسيء للنّساء. أمّا البعض الآخر فلم يخف انتشاءه واستمتاعه بهذا المشهد الاحتفاليّ وشماتتهم وتشفيهم في هذا المسؤول بل إنّه شجّع المرأة على اللّطم واللّكم بقولهم"زيديه..زيديه..."وخلع عليها شرف الرّجولة فاعتبرها"رجلة" و"أرجل منّو"و"مرا بألف راجل. لكنّ هذا الانتشاء سرعان ما يوقع أصحابه في حرج التّناقض أمام المآل القضائي والقانونيّ حين تُعتبر هذه المرأة المعتدية مذنبة وتعاقب بالسجن والخطيّة الماليّة، فلا يمكنهم أن يفتخروا بسجنها على قاعدة"الحبس للرجال" بل يستحضرون أنوثتها باعتبارها أمومة يتشتّت الأبناء بغيابها، وباعتبارها مُعيلة قد تفقد بالسّجن مصدر رزقها ورزق عيالها، ويستحضرون أيضا القيم الاجتماعيّة والدّينيّة والإنسانيّة كالشّهامة والرّجولة والتّسامح ليجنّبوا هذه المرأة تحمّل مسؤوليّة سلوكها وقد يستحضرون انتماءها السّياسيّ ويدافعون عنها على هذه القاعدة.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة